Newsletter

Pour recevoir les nouvelles du site, entrez votre courriel et cliquez sur « Je m’abonne »

Heidegger et la pensée arabe, Al-Akhbar, 09.03.2012

هايدغر والفكر العربي

 ac5e3186

صدر حديثا عن دار لارماتان في باريس (2011) كتاب “هايدغر والفكر العربي” لأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، البروفسور مشير عون، في سلسلة “الفكر الديني والفلسفي العربي”. يتناول هذا البحث إشكالية تلاقي فكر مارتن هايدغر (1889-1976) الفلسفي والفكر العربي، وهي إشكالية تطرح للمرة الأولى. ففكر الفيلسوف الألماني لم يثر أيّة حشرية فكرية تذكر في العالم العربي، ولم يستثر أي إغراء ايديولوجي. يبغي الكاتب إظهار أهمية التلاقي الإيجابي الممكن بين هذين العالمين، عبر دراسته التي تتبلور في صورة المساءلة، علّ الفكر العربي يجد في “فلسفة الكائن” الهايدغرية مصدر وحي يتناسب وإشكاليّاته الخاصة. يقسم هذا البحث إلى قسمين: فالقسم الأوّل تحليل مقارن لهيكليتي الفكر العربي وفكر هايدغر، والقسم الثاني محاولة مقارنة أنتروبولوجية بين الفكرين. هذه الدراسة هي أيضا بمثابة مدخل رصين إلى ما يقوله هايدغر في الإنسان أو “الكائن هنا” (dasein) والكينونة (sein). وهي تطلع القارئ على التصور العربي الإسلامي المتصل بمقام الإنسان كخليفة، وقد تناول مشير عون هذه المسألة بشكل مفصّل في كتابة “بين الإبن والخليفة” (منشورات المكتبة البولسية، 2010).

 لا شكّ أنّ لقاء الفكر العربي فلسفة هايدغر يحدث نوعا من التوتّر، لأنّ نشوب هذا الفكر في التربة الإسلامية يجعله حذرا تجاه فلسفة تحوي في أساسها التعددية الفكرية، وتعتبر تعدد الخطابات حول الكينونة شرعيا، إذ “يمكن كل الثقافات أن تدرج عطاءاتها في سفر الحقيقة، بالقدر الذي تجهد عقولها في إظهار تنوع الكينونة الذي لا ينضب”. ويتعارض هذا المنطق الذي يندرج في “لاهوت تعددي” (انظر: مشير عون، النور والمصابيح، جامعة البلمند 2010)، يتعارض والأنظومة الدينية الإسلامية، وهي أنظومة اقصائية عندما يتعلّق الأمر بالحق الإلهي. ولكن، بالرغم من هذه العقبة، يعتقد عون أن منهجية المساءلة التي يتبعها في بحثه هي سبيل مناسب وخلاصي، يمكن الفكر العربي السير به من أجل إحداث “حيوية نقدية فريدة”. ولهذا التفكّر تداعيات تصيب “تحرير المجتمع العربي من أعمال اللاعدالة المُمارسة ضد وجود الإنسان التاريخي، من دون السقوط في التجربة الايديولوجية، وتحرير الذات العربية من الانحرافات والأمراض التي تكبلها”. وعليه، فجل ما يمكن فكر هايدغر تقديمه هو حثّ الفكر العربي على مساءلة ذاته في ضوء مسألة “الكينونة” بكل ما تحويه من انفتاح تعددي، ومساءلة “الكينونة” في ضوء إشكاليات العالم العربي الخاصة. يعي الكاتب عمق الهوة التي تفصل بين هذين العالمين، وانعدام محاولات التقارب في تاريخ الفلسفة الحديثة، وهو يقر بحدود بحثه فيصفه “بمحاولة” لا تعد بشيء بل تشقّ طريقا جديدا وفذّا في عالم البحث الفلسفي.

 ولمّا كان تحديد منطلقات فلسفة هايدغر سهلا من خلال الإستناد إلى كتابات الفيلسوف وهي في متناول الباحث، غير أنّ المسألة تتعقّد عندما يتعلّق الأمر بالفكر العربي. فهذا الفكر قد تطوّر وتبلور عبر العصور ومن خلال ثقافات متعدّدة تؤول بنا على الأقل إلى ثلاثة أنواع من الفكر العربي المعاصر: أ- الفكر العربي الديني الإسلامي، ب- والفكر العربي العلماني الذي يدور في فلك الفكر الغربي، ت- والفكر العربي التوفيقي، وهو أمين للتقليد ومنفتح على الحداثة. ويضاف إلى ذلك مشكلات أخرى ومنها إنشاء وصال في القربى بين فكر هايدغر والفكر العربي، ومنها أيضا اختلاف سياقات نشوء هذين الفكرين، والإستعمال المتمايز للمصطلحات، وفقر الترجمات، والإطلاع المحدود جدا على فلسفة هايدغر في العالم العربي وهي لا تستهوي بتعقيدات مصطلاحاتها ومفاهيمها القارئ. أمّا الإشكالية الأكبر التي على هذه المقارنة أن تواجهها، فهي تتحدّد في عمق الفكرين، إذ إنّ فكر هايدغر هو فكر أنطولوجي بامتياز محوره علاقة متوتّرة بين “الكائن هنا” و”الكينونة” الذي لا يسمّيه الفيلسوف، في حين أنّ الفكر العربي هو فكر لاهوتي بعمقه، محوره الحق الإلهي وجدلية الوحي والعقل. أمّا منهجيّات الفكرين، فهي أيضا في حال تمايز متباعد، إذ إنّ فكر هايدغر يرنو إلى “تفكيك” البناء الماورائي للفلسفة المعاصرة، في حين أنّ منهجية الفكر العربي تقوم على “تأقلم” المتوارث والتقليدي مع ما هو حديث، من دون الغوص في مساءلات نقدية جذرية.

 يتلاقى الفكران حول مسائل عدّة، ومنها علاقتهما مع الغرب. فهما ينظران إليه مفتونين على ما يحويه من قدرات كامنة في ذاته ومتشككين مما بإمكانه أن يؤول إليه. وأمّا إحدى المسائل اللأساسية التي تجمع فكر هايدغر بالفكر العربي، فهي مسألة اللغة. فالفيلسوف الألماني يعتبرها مُؤسسة لهويّة الأمّة والإنسان الذي ينوجد ويولد من خلالها إلى حقيقته كراع للكينونة. والفكر العربي ينظر إلى اللغة العربية “كالمستودع الأساسي للروح وللهوية العربية”، وهي “العنصر المؤسس للوعي العربي الجماعي”.

 يقترح الكاتب سبلا شتى للاستفادة وللتبادل بين فكر هايدغر والفكر العربي، نذكر منها إثنين. أ- إنّ أصالة الإنسان تمرّ بالنسبة إلى الفيلسوف الألماني بعالميته (mondanité)، وبزمنيّته (temporalité) وبتارخيّته (historialité). ويعتقد مشير عون أنّ على الفكر العربي أن يضمّ إلى تصوّره للإنسان هذه المكوّنات الثلاثة التي تثنيه عن النظر إلى الإنسان ككائن مجرّد ومنزّه عن العالم والزمن والتاريخ، يقتصر انتماؤه على الحق الإلهي الأزلي وكل ما يتأتّى منه. ب- يتناول هايدغر النظرات المختلفة إلى الله، كنظرات الفلاسفة أو الأنظومات الدينية المرتكزة على الوحي الإلهي، ويميّز بين تلك “الآلهة” والإله الذي تحتمل بعض نصوص الفيلسوف، من دون جزم واضح، أن ينظر إليه كأصل للكون. فيضحي بذلك مصدر كل “الآلهة” ومبدأها، أي الخِطابات والمفاهيم الدينية أو الفلسفية للإنسان حول الألوهة. يعتقد عون أنّه يمكن لهذا التفكّر أن يُترجم في الفكر العربي بلاهوت تعدّدي يقرّ بشرعية الخطابات المختلفة في الله، من دون أي إقصاء، أو تعال،أو احتواء.

 نظرة هايدغر إلى الإنسان نظرة أنطولوجية، وهو يدعوه “الكائن هنا” الذي “عليه أن يتعلّم كيف يراقب تجلّيات وانحجابات الكينونة باحترام ومودة”. فالإنسان هو “الكائن هنا” الذي يسكن قرب “الكينونة”، وهو يسمح بحضوره وبحضور السؤال عنه. تظهر الحقيقية انطلاقا من ذلك كنتيجة للحراك بين “الكينونة” و”الكائن هنا” الذي هو تجلّ له. وهذا المنطق يتعارض وكل فكر إقصائي يحصر الحقيقة في مكان واحد، ويتعارض أيضا والنظرة الحديثة إلى الإنسان تختزل هويته في قدراته العقلية وقدرته على السيطرة التقنيّة على العالم. أمّا نظرة الفكر العربي إلى الإنسان، فهي بالنسبة إلى الكاتب متأثرة بشكل جذري بالنظرة القرآنية التي تقول بأنّ كل شيء مصدره الله وأنّ لا شيء يمكن تفسيره من دون الله. فعلى الإنسان أن ينصاع ويستسلم ويعترف بسلطة لله المطلقة لكي يبلغ أصالته. الإنسان القرآني هو إذا مرهون لمشيئة غير مشيئته، ومنصاع لقدرة غير قدرته. ويعلّم القرآن أنّ الإسلام هو دين الفطرة، الدين الكوني للإنسان، بمعنى أنّ كل إنسان يولد مسلما. وعليه، فالإنسان هو “خليفة” لله، مؤتمن من خالقه على سياسة الدنيا وأمورها بحسب تعاليم الشريعة الإلهية الأزلية. على عكس نظرة هايدغر التي تولي الإنسان قيمة ذاتية بحيث يضحي تجلّيا “للكينونة” وكشفا للحقيقة التي تظهر من خلال الحراك الموجود بين “الكائن هنا” و”الكينونة”. إنّ مصير الإنسان القرآني ترسمه مشيئة الله الذي يديره بحيث يضحي وجوده رهن كلمة تأتيه من خارج عالمه. فالإنسان بذاته ومن دون الله لا شيء، وهو لا يمكنه الإستقلالُ الوجودي.

 يعتبر مشير عون أنّه يجب على النظرتين العربية والهايدغرية للإنسان أن تكونا منطلق كل مقارنة وتلاقح بين الفكر العربي وفكر هايدغر. ويرى أنّ هناك تقاربا بين إنسان هايدغر، “الكائن هنا” الذي يستسلم بشكل ما “للكينونة”، وإنسان القرآن، “الخليفة”، الذي يستسلم بشكل مطلق لله. وفي حين يحاول الإنسان القرآني فهم كلمة الله عبر الحفاظ على خلقه، يحاول إنسان هايدغر فهم كلمة “الكينونة” من خلال رسالة خلاصية تدفعه إلى المحافظة على الأرض والسماء، وعلى البشر والآلهة. ولكن بالرغم من هذا التقارب الممكن، فإن هويّة لله الإسلامية تختلف جذريا عن هويّة “الكينونة” الهايدغرية. ولهذا الاختلاف تداعياّت انتروبولوجية مباشرة، فالإنسان “الخليفة” يحقق مشروع الله، أمّا الإنسان “الكائن هنا” فيحقق مشروعه الخاص في العالم. يخلص عون إلى القول إنّ تلك النظرتين للإنسان مختلفتان ولا تأتلفان في عمقهما. ولكن، بالرغم من ذلك، يعتقد الكاتب أن “غياب الإئتلاف لا يبطل إمكانيات التلاقي والمواجهة والتبادل. لأنّه يمكن للغرباء فقط أن يلتقوا بالحق وبالعمق”.

 يختم الكاتب بحثه في التكلّم على قدرات تلك النظرتين إلى الإنسان، النظرة العربية وهي لاهوتية محورها الله، والنظرة الهايدغرية وهي أنطولوجية ومحورها الكينونة. وهي قدرات تتيح للإنسان أن يبلغ إلى أصالته التاريخية والوجودية والأخلاقية. يتّخذ عون موقف المشكك الناقد ويتساءل هل تكون النظرة الأنتروبولوجية إلى الإنسان هي السبيل النيّر إلى ذلك: “فعلى عكس أنتروبولوجيا الكينونة الهايديغيرية، وعلى عكس أنتروبولجيا الفكر العربي اللاهوتية، تقترح الأنتروبولجيا الإنسانية على نفسها الحفاظ على المرجعية التارخية للكائن الإنساني”. ويعتقد عون أنّ “تدبير الأصالة الوحيد الذي ينبغي عليه أن يوجه وجود الإنسان البشري عليه أن يحترم بشكل مطلق الغيرية والعلاقة الانفتاحية بين الذوات”.

بمناسبة صدور هذا الكتاب، تنعقد في نهار السبت 10 آذار في الساعة الرابعة بعد الظهر، ندوة فكرية في مبنى الحركة الثقافية – أنطلياس، يتناوب فيها على الكلام الأساتذة الجامعيون ناصيف نصار، وموسى وهبه، وأنطوان فليفل.

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 09.03.2012

Leave a Reply

You can use these HTML tags

<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>