|
Hossein Al-Aoudat : à quand la Nahda arabe ?, Al-Akhbar, 11.01.2012 حسين العودات: متى النهضة العربية؟
صدر حديثاً عن دار الساقي كتاب حسين العَودات، «النهضة والحداثة بين الارتباك والإخفاق» (2011). هذه الدراسة موسوعيّة، فهي تطلع قارئها على تفاصيل محورية وخطيرة تطاول تطوّر الفكر العربي النهضوي خلال قرنين، وهي تتيح لأهل الاطلاع تعميق معرفتهم بقرائن تاريخيّة وفكرية ضرورية لفهم أحوال العالم العربي الآنية وتمخضاته ونزاعاته. كما تسلّط الضوء على الطاقات الكامنة في الفكر العربي الذي لا يمكن اختزاله بشبه الفراغ المرعب الذي نواجهه الآن، وتطلعنا على تأويلات دينية إسلامية وليدة القرن التاسع عشر، كالاعتقاد أنّ الإسلام «دين ودنيا»، يمكن المرء اعتقاد عمرها من عمر الدعوة الإسلامية. إنّ صدور كتاب العَودات في زمن «الربيع العربي» مرحّب به، لأنّه يجعلنا ندرك أنّ الإشكاليّات التي يتمخض بها سياقنا ليست بحديثة، بل هي نفسها منذ قرنين، تبحث عن حلول لا تزال تتأرجح بين توق الإنسان العربي إلى الحريّة والأصالة، وتسلّط الاستبداد السياسي والأصوليات الدينية. فأسئلة النهضة العربية لا تزال ماثلة أمام المجتمعات العربية، “…لأنّ هذه الأسئلة لم تتلق الإجابات الضرورية التي تحتاج إليها، فبقيت قضايا أساسية تتعلق بمراحل النهضة والتنوير والإصلاح والحداثة والعلمانية والديموقراطية ومفاهيم الدولة الحديثة، تقلق المثقفين والسياسيين والنخب العربية، وتؤثر سلباً على تطوّر المجتمعات العربية، وتثير الصراعات السياسية والفكرية والأيديولوجية داخلها”.
تنقسم دراسة العَودات إلى ستة فصول تعالج مفاهيم متشابكة بعضها ببعض بشكل جذري، بحيث لا يمكن تناول الواحد من دون التطرّق إلى الأخرى. فالنهضة الأوروبية والنهضة العربية، والحداثة، والعلمانية، والديموقراطية وإشكاليات الوطن والقومية والدولة هي مفاهيم متلازمة، لا يمكن إدراكها إلا من خلال قراءة شاملة لتطوراتها وترابطها. ويساعدنا الكاتب على فهم تلك الإشكاليات عبر عرض أفكار عشرات النهضويين من مختلف التوجهات الدينية والثقافية والسياسية، ومن خلال شرح «أسباب فشل النهضة والحداثة وإخفاقهما في البلدان العربية». ومن أهم تلك الأسباب: محاولة نقل «المفاهيم الأوروبية إلى المجتمعات العربية كما هي بلا مواءمة، منطلقين من مفهوم أنّ ما صلح هناك يصلح هنا»، والسلفيّة الدينية الإسلامية، والأنظمة السياسية الاستبدادية. من المستحيل كتابة تحقيق شامل عن تلك الدراسة بعدد قليل من الكلمات، لما تحويه من مادّة فلسفية دسمة جدّاً، ومن جمّ من التفاصيل التاريخية والفكريّة والفقهية. لذلك، سنتطرّق باختصار كبير إلى مادّتي النهضة والحداثة المحوريتين فقط، تاركين للقارئ لذّة التمتّع بقراءة النص الأصلي لهذا الكتاب المرجعي.
يشكّل الفصل الأوّل مقدّمة لفهم الكتاب عبر التطرّق إلى النهضة الأوروبية التي هي في أساس النهضة العربية. والنهضة الأوروبية ليست حصيلة زمن معيّن أو إرادة حاكم أو فيلسوف، بل حالة تطورّت وتكونت على مرّ عدّة قرون وسياقات، وشملت مختلف جوانب المجتمعات الغربية. وقد لزم تلك النهضة قرون عدّة لكي تنقطع عن نظام الحياة القديم، وتهيّئ الطريق للعالم الغربي الحديث بدولته العصرية، وحقوق الإنسان، والإصلاح الديني، والتقدّم التقني، والعلمانية بأوجهها المتعددّة، إلخ. بلغت النهضة الغربية العالم العربي في 1798، عندما وطئ نابوليون أرض مصر حاملاً معه إرثه النهضوي الأوروبي بنموذجه الفرنسي. وبعد توضيح تلك المنطلقات، يتناول الكاتب مسألة النهضة العربية وظروف نشأتها وتطوّرها وإخفاقها، وأحد أهم أسبابه «يعود إلى أنّ معظم النهضويين حاولوا تقليد النهضة الأوروبية … ولم يقوموا بالعمل الدؤوب لتحقيق التفاعل بين مفاهيم النهضة الحقيقية والجذرية وبين ما يجري في العالم العربي». ومن أهم مقومات نضال هؤلاء النهضويين تحقيق الإصلاح الديني الإسلامي، واحترام العقلانية، وإرساء مفاهيم الدولة العصرية، والعلمانية (بالنسبة إلى البعض منهم)، والحرية، والديموقراطية، ورفض الاستبداد. وقد ساهمت عوامل عدّة في نشوء هذه النهضة، ومن أهمّها، تأسيس المدارس الأجنبية وتوسعها، وانتشار المطابع في بلدان عربية مختلفة بعد منعها من قبل العثمانيين لفترة ثلاثة قرون، وظهور الصحافة العربية، والاهتمام باللغة العربية، وتأسيس الجمعيّات التي ستتحوّل لاحقاً إلى أحزاب سياسية، وتزايد عدد الطلاب الذين يسافرون إلى أوروبا طلباً للعلم والذين يتأثرون بمكتسباتها الحديثة، والتحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التي حولّت وجه المجتمع. ومن أهم ما استنبطه النهضويّون العرب من النهضة الأوروبية: «الاعتراف بأهمية العقل والعلم في تطور المجتمع، ونشر التعليم، ورفض العادات القديمة البالية، ومحاربة الاستبداد والتخلّف والخرافات، وقبول مبدأ نقد التراث، واستيعاب المفاهيم المعاصرة والوطن والوطنية والأمة والدولة الحديثة، والدعوة إلى حرية الفكر والاعتقاد والمساواة بين المواطنين جميعاً من مختلف القوميات والأديان، والاعتراف بحقوق المرأة، وفصل السلطات». لكن هذه الأفكار جوبهت أقلّه من قبل فريقين، ما حدّ من تطورها وتطبيقها: رجال الدين ودعاة العداء لأوروبا الاستعمارية وأفكارها.
يطلعنا الكاتب من خلال عرضه أفكار النهضويين العرب على التيارات الثلاثة الأساسية التي كانت فاعلة من خلال النهضة العربية، وهي ليست بالضرورة تيارات تتكامل وتتبنى الاتجاهات نفسها، بل هي متعارضة في الكثير من الأحيان، بالأخص عندما يتعلّق الأمر بالمقدّس وبعلاقته بالسياسة وبالمجتمع. فالتيار الأوّل هو التيار النهضوي الإسلامي، الذي أراد النهضة تحت مظلّة النص القرآني والشريعة الإسلامية، ومن أهم من يمثله: رفاعة الطهطاوي، خير الدين التونسي، أحمد فارس الشدياق، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، قاسم أمين وعلي عبد الرزاق. والتيار الثاني هو التيار النهضوي الليبرالي وهو يلتصق إلى حد كبير بالحراك الفكري والفلسفي، ومن أهم ممثليه: فرنسيس مراش، شبلي الشميل وفرح أنطون. والتيار الثالث هو التيار النهضوي القومي، وقد اهتم مناصروه بالقضايا السياسية بالدرجة الأولى، ومن أهم ممثليه: أديب اسحق، بطرس البستاني، ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم ونجيب عازوري. شكّلت هذه النهضة، بأوجهها المختلفة «شرارة الانتقال من عصر الجمود العربي والتخلّف والظلامية إلى مرحلة التنوير والنهوض والإصلاح وامتلاك ناصية التطور، وتحويل المجتمع العربي من الحال التي هو فيها إلى حال أخرى أكثر تطوّراً اقتصادياً وسياسياً وفكرياً وفلسفياً ودينياً». لكن تطبيق هذه الأفكار فشل ولم يتغيّر شيء جذريّ في قلب المجتمعات العربية خلال قرنين، لأنّ بورجوازية محلية قادرة على حمل قضايا النهضة لم تنشأ، ولم ينشأ أي تيار اجتماعي أو حزبي ينادي بهذه الأفكار. وقد وقف «النهضويون الإسلاميون سداً أمام أفكار النهضة بدلاً من أن يحملوا مشعلها حتى النهاية، ولم يروها كما رآها المفكرون والفلاسفة الأوروبيون وبعض المثقفين العرب، وسعوا إلى أسلمتها».
الحداثة مفهوم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنهضة، وهو من أحد مكوناتها. الحداثة كما يحدّدها الكاتب هي «منظومة من المفاهيم والعناصر والعلاقات التي تكوّن في مجموعها المجتمع المتطوّر، وتساهم في بناء الدول والمجتمعات والنشاطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية». وهي انتصار للعقل في كل الميادين، إذ يصبح العقل هو المرجع، لا النص الديني أو أيّة تقاليد موروثة أو ماورائية. «وتؤكّد أفكارها ونظريتها على تبني العقلانية ونقد التراث، وتطالب بالإصلاح الديني، وتعتمد الفردية والفردانية بحيث لا يحق لأحد الهيمنة على الفرد، وتطالب بتحرير عقله، وأن يوكل إليه تدبير شؤونه وهيمنته على الطبيعة».
لم يمنع هذا الوصف المثالي للحداثة من نقضها، وقد قام بذلك الأوروبيون أنفسهم في القرن العشرين، ولكن على الرغم من ذلك، بقيت الحداثة حاوية للكثير من مقوّمات النهضة، وهي ضروريّة على الرغم من الحذر الذي يجب التمنطق به عند الاستناد إلى معطياتها. ويعتبر الكاتب أنّ الحداثة لم تستوطن بعد العالم العربي، إذ كان تأثيرها جانبياً فقط. فالظروف «الموضوعية والشروط التاريخية والإنسانية المفضية إلى الحداثة لم تتوافر في البلدان العربية». ومن أهم هذه الظروف عدم حسم العرب موقفهم من المقدس بحيث أعطوا العقل دوراً لا يتخطّى الهامش الذي يسمح به الدين، وعدم تحقيق أي إصلاح ديني، فضلاً عن الاستغلال والاستثمار السياسي للدين ومقدساته.
لا شك أنّ هذه الإشكاليّات هي في محور المخاض الثوري الآني. ولكن هل نضج عالمنا العربي، بمشرقه ومغربه لبلوغ ملء قامته النهضوية والحديثة؟ لا ريب أنّ مطالب كثيرة تتلاقى مع المطالب التي ما برح ينادي بها أهل النهضة والحداثة، ومنها الديموقراطية، والتحرر من الاستبداد السياسي، والتخلّص من اللاعدالة الاجتماعية والفقر، والإنماء والإعمار، إلخ. لكنّ العائق الأساسي الذي وقف سدّاً منيعاً منذ قرنين في وجه النهضة والحداثة في العالم العربي لا يزال موجوداً، وتضاعف تأثيره وسلطته على الشعوب العربية، أعني بذلك التيّارات الأصولية والسلفية الإسلامية التي كان وهجها قد اضمحل في منتصف القرن العشرين مع تصاعد القوميات العربية العلمانية النزعة. فهل بالإمكان رجاء نهضة عربية وحداثة عربية، وهما مطلبان إنسانويّان ملحّان، في ظل هيمنة المقدّس المتصاعدة في السياقات العربية المختلفة؟
أنطوان فليفل
جريدة الأخبار 11.01.2012
|
|
Leave a Reply