Newsletter

Pour recevoir les nouvelles du site, entrez votre courriel et cliquez sur « Je m’abonne »

Mouchir Basil Aoun : les Arabes entre la pensée et la politique, Al-Akhbar, 22.11.2011

مشير باسيل عون: العرب بين الفكر والسياسة

 H

أساس فكر عون القولُ بأصالة التعدّد الكونيّ. أمّا النهج التاريخيّ الاجتماعيّ الذي يعتمده تطبيقاً لمبدأ التعدّديّة، فهو الانتصار لعَلمانيّة هنيّة تُتيح للأفراد وللمجموعات أن تتعايش معايشة خلّاقة تصون الاختلافات في نطاق الانتماء إلى المدينة الإنسانيّة الواحدة

■ ما هي الفلسفة؟

الفلسفة بحثٌ دائمٌ عن المعنى الأشمل للوجود الكونيّ والإنسانيّ، بحسب مقتضيات التفكّر العقليّ المستقلّ وفي استنهاض شامل لطاقات الوعي الإنسانيّ كلّها. وهي السؤال الأصعب الذي يصيب عمق الكيان الإنسانيّ ويستتلي من تلقاء نفسه التجدّد والانسلاك في السياق التاريخيّ المتغيّر. الفلسفة تدنو من الحياة لتستنطقها عن رسائلها التي تستكتبها الناسَ في كلّ زمن من الأزمنة. ولا تني الفلسفة تعارك الحياة وتعاركها الحياة. ولذلك كان من ألزم شروط الفلسفة التبصّر في نداءات الوجود المنبثقة من صلب المعاناة الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة. ولذلك أيضاً كانت الفلسفة، على وجه المفارقة، أرقى العلوم وأعسر الصناعات اليوميّة التي يندر أن يمتهنها الإنسان في زمن العولمة. ومن مغريات الفلسفة المربكة أنّها العلم الوحيد الذي يحرّر الإنسان تحرير التحلّل والبناء. فالفلسفة تَستحلّ الإنسانَ فتُعتقه من الموروثات المجافية للواقع المستجدّ. والفلسفة تبني الإنسان فتُنشئ له بنياناً كيانيّاً جديداً يراعي مقتضيات الانسلاك في معترك الحياة.

■ هل للفلسفة من وظيفة في العالم العربيّ؟

قد يُحمَل السؤال على وجهين. الوجه الأوّل يقتضي النظر في واقع الوظيفة التي تضطلع بها الفلسفة في العالم العربيّ. أمّا الوجه الثاني، فيتطلّب النظر في طبيعة الوظيفة التي ينبغي للفلسفة أن تضطلع بها في العالم العربيّ. غير أنّ الحديث عن علاقة الفلسفة بالعالم العربيّ لا يستقيم إلّا بمعاينة واقع العالم العربيّ. العالم العربيّ متأخّرٌ متوعّكٌ تقنيّاً، متألّمٌ مكبوتٌ وجوديّاً، متعثّرٌ متشنّجٌ عقليّاً، مضطربٌ محمومٌ دينيّاً، متذبذبٌ ملتبسٌ روحياً. هذه هي السمات السلبيّة التي أعاينها مرتسمةً على محيّا هذا العالم الذي تُحزنني إطلالتُه على آفاق القرن الحادي والعشرين. والحال أنّ الوضعيّة الثقافيّة التي تتخبّط فيها مجتمعات العالم العربيّ ما انفكّت أسيرة الأنظومة الفكريّة التي كانت سائدة في القرون الوسطى. وهي أنظومةٌ بَطلت ملاءمتُها المعرفيّة لأوضاع الاختبارات الإنسانيّة الناشطة في الزمن الحاضر، لأنّ أصولها ومنطقها ومبادئها ومفاهيمها ومقولاتها ومناهجها شاخت وكفّت عن أن تعبّر عن المستجدّات الطارئة على الوعي الإنسانيّ. وفي يقيني أنّ باب الاجتهاد العقليّ قد أغلق حين آثر العرب مناصرة الغزالي والتخلّي عن ابن رشد. بيد أنّ الأزمة العقليّة الخطيرة التي تعصف بالعالم العربيّ توجب الاستفسار عن حقيقة تلك المستجدّات. فإذا أكره أهلُ السلطان الدينيّ والسياسيّ والمعرفيّ المجتمعاتِ العربيّة على القول إنّ اختبارات الإنسان العربيّ لا تتبدّل بتبدّل الأهواء والتيّارات، كانت الأنظومة الفكريّة الوسيطيّة الشائخة هي الأنسب للوعي العربيّ. وهنا يواجه الفكر العربيّ السؤال الفلسفيّ الأخطر: هل تغيّرَ الإنسانُ العربيّ تغيّراً كيانيّاً وجوديّاً يبرّر تغيير الأنظومة الفكريّة؟

■ ما الذي يمكن أن تقدّمه الفلسفة للعالم العربيّ؟

لا شكّ في أنّ هذا السؤال يصيب الوجه الثاني من التحليل، إذ يتناول الفكرُ طبيعةَ الوظيفة التي ينبغي أن تضطلع بها الفلسفة في العالم العربيّ. والحقيقة أنّ واقع الفلسفة في العالم العربيّ لا يشجّعني على التفاؤل، لكنّ الفلسفة تَفكّرٌ لا يملك الواقعُ أن يقبض عليه. ولذلك لا بدّ من النظر إلى الرجاء الفلسفيّ الذي يعقده الفلاسفة العرب، وهم ندرةٌ نادرةٌ، على تحوّل الذات العربيّة وانسلاكها في مسرى التحرّر. فإذا كان للفلسفة اليوم من رسالة استنهاض تلائم واقع العالم العربيّ، فهي رسالة تحرير الذات العربيّة من ذاتها. وهذه، لعمري، من أعسر المهمّات المعرفيّة والوجوديّة. فالفلسفة تنفرد وحدها من بين جميع العلوم في القدرة على تفكيك التراكمات المعرفيّة التي احتشدت في الوعي العربيّ، وأغلقت عليه منافذ مصاحبة العصر. وربّ معترض يعترض على طبيعة هذه الرسالة مبرّراً تحفّظَه بغربة الذات العربيّة الثقافيّة عن المسعى الفلسفيّ. فالفلسفة ليست من صميم الكينونة العربيّة، على حدّ ما يدّعي بعضُهم. لكنّ هذا القول مردودٌ لأنْ ما من صميميّة كينونيّة قائمة في ذاتها بمعزل عن عوامل التأثّر التاريخيّ. فإذا صحّ هذا القول، صحّ قولٌ آخر يرى أنّ الإسلام ليس من صميم الكينونة العربيّة، إذ إنّ العروبة قامت قبل الإسلام. وصحّ قولٌ آخر أيضاً يرى أنّ المسيحيّة ليست من صميم الكينونة العربيّة. وفي ظنّي أنّ مثل هذا المنطق عقيمٌ يجافي أصول الانخراط في المسرى التاريخيّ للوجود البشريّ، وهو مسرى التأثّر والتأثير، والتفاعل والتقابس، والتبدّل والتطوّر. وحدها الفلسفة، على ما تختزنه من طاقات التحرير للذات العربيّة، قادرةٌ على استنهاض العالم العربيّ والتوثّب به نحو آفاق التجديد والإبداع. بيد أنّ ذلك يقتضي جرأةً نادرةً في الإنسان العربيّ حتّى يخلع عنه لباس الاستعباد. فالإنسان العربيّ عبدٌ لغيره. والغيريّة التي تستعبده جعلته يستعذبها لشدّة ما ألمّ به من نوائب الدهر. ولكأنّي به يخال نفسه اليوم في أبهى صيَغ الوجود، في حين أنّه يعاني الأمرَّين. ومن أدهى المصائب التي تنتابه أنّ الفكر الدينيّ العربيّ والفكر السياسيّ العربيّ تواطآ عليه، فأوهماه أنّ اكتمال كيانه وسعادة وجوده تضمنهما له مقولاتُ الانصياع لهما، أي للأنظومة الثقافيّة والاجتماعيّة التي سار عليها المجتمع العربيّ منذ أقدم العصور. أمّا الفلسفة، بما هي نقدٌ بنّاءٌ لمسلك الإنسان في التاريخ، فإنّها تمنحه الفرصة والقدرة على النظر إلى ذاته وإلى الآخرين نظرةً جديدةً. وهذا ما يحتاج إليه العالم العربيّ في الزمن الحاضر.

■ ما المبادئ الفلسفيّة الأساسيّة التي تعتمدها في تصوّرك الفكريّ للوجود؟

لا أخفيك أنّي، بالرغم من فتوّتي الفكريّة، أحسّ إحساساً شديداً بنسبيّة الأشياء والكلمات في كلّ ما يكتنف العالم والكون من توتّرات وتنازعات وجدليّات. وفي ظنّي أنّ الوجود لا طاقة للإنسان على الإطباق عليه. فالوجود في ذاته أمرٌ، ووعي الوجود في التاريخ أمرٌ آخر. ولا سبيل للإنسان إلى الانعتاق من الوعي التاريخيّ. ويعنيني في هذا المقام أن أميّز أموراً ثلاثة: الأشياء في جوهر كينونتها، والاختبارات الإنسانيّة المتنوّعة لتجلّي الأشياء في معترك الحياة، والكلمات التي يستخدمها الناس لوصف تلك الاختبارات. ويقيني في ذلك كلّه أنّ هناك فاصلاً عظيماً بين هذه الدوائر الثلاث. فالأشياء هي غير الاختبارات، والأشياء والاختبارات هي غير الكلمات. والحال أنّ الناس يظنّون بخطاباتهم أنّهم يقبضون على الأشياء من خلال اختباراتهم لها. وفي هذا عين الضلال. ولذلك أقترح في فلسفة الحوار التي أنادي بها أن يعتصم الناس بنسبيّة اختباراتهم للأشياء وبنسبيّة كلماتهم في وصف هذه الاختبارات، وأن يكفّوا خصوصاً عن الادّعاء الثقيل أنّ كلماتهم واختباراتهم هي الصورة الأمينة المثلى للأشياء. وحده هذا التمييز يدفع بالناس، مهما تنوّعت أديانهم ومذاهبهم، إلى التقابل والتعارف والتصافي والتعاون والتقابس. وهذه هي الأفعال الإنسانيّة الخمسة الراقية التي تليق بحضارة البشريّة في مطالع الألف الثالث. وعماد هذه الفلسفة الحواريّة أنّ الوجود في صلب كينونته متنوّعُ الظهور، وأنّ الحقيقة في صميم حركتها التاريخيّة متشعّبةُ التجلّيات، وأنّ الانتماء الإنسانيّ في عمق معناه علائقيٌّ يستضيف الغيريّة استضافة التبادل الحرّ. فالقول بالنسبيّة لا يعني الإعراض عن الإيمان الذاتيّ والاعتقاد الذاتيّ والانتماء الذاتيّ، بل يعني الاعتراف بانتساب كلّ انتماء ثقافيّ أو دينيّ أو اجتماعيّ إلى ميدان الوجود المتنوّع الظهور وتجلّيات الحقيقة المتشعّبة المسالك. وبالاستناد إلى هذا الأساس الفلسفيّ تسنّى لي أن أصوغ نظريّة فلسفيّة خاصّة في حوار الأديان تقتضي التمييز بين ثلاث دوائر في الانتماء الدينيّ على تنوّع تسمياته. فهناك دائرةٌ أولى مشتركة بين جميع الناس، وهي دائرة الاعتراف بحقوق الإنسان التي نجحت الشرعة العالميّة في استخراج خلاصتها الجوهريّة في إثر قرون من المعاناة الإنسانيّة. وما من سبيل إلى تسالم الحضارات والمجتمعات إلّا بالتوافق على أحقّيّة تلك الشرعة. وهناك دائرةٌ ثانية مشتركةٌ بين أهل الأديان، هي دائرة الولاء للقيَم الروحيّة الخاصّة بالاختبار الدينيّ، ومنها على سبيل المثال، قيَم المحبّة والرحمة والغفران والتضحية والإخلاء الذاتيّ، وهي قيَمٌ لا تملك شرعةُ حقوق الإنسان العالميّة أن تنادي بها. لكنّها قيَمٌ لا تناقض الشرعة العالميّة، بل ترتقي بالإنسانيّة إلى مستوى الروحيّة الأخلاقيّة الرفيعة. وهناك أخيراً دائرةٌ ثالثةٌ تختصّ بها كلُّ ديانة على حدة، عنيتُ بها دائرة التذوّقات اللاهوتيّة الماورائيّة الغيبيّة الصوفيّة التي تنفرد بها كلُّ أنظومة دينيّة وتراها في أساس العمارة الدينيّة. ودعوتي للأديان أن تعتصم بهذه التذوّقات اللاهوتيّة من غير أن تُنزلها منزلة المطلق المهيمن على آفاق الوعي الإنسانيّ، ومن غير أن تفرضها على الآخرين، ومن غير أن تعزلها عن سياقات نشوئها الثقافيّ والتاريخيّ. فإذا اعتمدت الحضارات على وجه العموم، والأديان على وجه الخصوص، مثل هذا التمييز، تهيّأ للناس أن يهنأوا بحياتهم مرّتين، حين يُسرّون باختبارهم الإيمانيّ المنعش لكيانهم، وحين يفرحون بإقبالهم إلى الآخرين يستكشفونهم عن مكانز اختبارهم الإيمانيّ المختلف. والشرط الوحيد في ذلك كلّه إقرارُ الجميع بأحقّيّة الشرعة العالميّة لحقوق الإنسان، مع ما تستتليه من تأويلات تاريخيّة مصاحبة لتطوّر الوعي الإنسانيّ في سياق التعدّديّة الكونيّة المتفوّرة.

■ ما رأيك بالربيع العربيّ؟

كلّ ما سبق يُنبئك عن رأيي. اعتقادي أنّ العرب ما بلغوا حتّى الآن مرتبة الثورة الثقافيّة التي تليق بكرامة الإنسان في العالم العربيّ. ولن يبلغوا هذه المرتبة ما لم يبدّلوا تبديلاً جذريّاً في نسق التفكّر العقليّ الذي ما انفكّ معتمداً اليوم في خلفيّات مسلكهم الاجتماعيّ والدينيّ والسياسيّ. وما من حافز أشدّ من الفلسفة خليق بإعانتهم على الارتقاء إلى تلك المرتبة الإنسانيّة العليا. أمّا ما نعاينه اليوم، فهو خليطٌ من تململ وجوديّ ونفور اجتماعيّ وصحوات دينيّة متشنّجة وتضارب في الأهواء والمصالح.

تعريف

 مشير باسيل عون هو أستاذ الفلسفة الألمانيّة في الجامعة اللبنانيّة، وهو متحدّر من البقاع الشماليّ، وتحديداً من بلدة جديدة الفاكهة. نشأ وتلقى علومه في مدينة زحلة، ثمّ في حريصا (الآباء البولُسيّين). نال إجازتين في الفلسفة واللاهوت من معهد القدّيس بولس في حريصا، ودبلوم الدراسات العليا في الفلسفة من الجامعة اللبنانيّة. ثم انتقل إلى فرنسا وألمانيا لتحصيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة الألمانيّة. عون متنوّعٌ في استلهامه لمصادر فكره الفلسفيّ، مع ميل إلى الأنوار الأوروبّيّة مزدانة بتقويمات الفكر النقديّ المعاصر. مؤلّفاته تناهز العشرين كتاباً متنوعاً، في إشكاليّات الحوار بين الأديان والحضارات، ولاسيّما بين المسيحيّة والإسلام، وفي مسائل الفِسارة أو تأصيل التفسير الفلسفيّ، وفي قضايا تجديد الفكر العربيّ الدينيّ المسيحيّ المعاصر.

 أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 22.11.2011

Leave a Reply

You can use these HTML tags

<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>