|
La tendance laïque dans la pensée chrétienne libanaise (2), Grégoire Haddad, Al-Akhbar, 19.03.2010 النزعة العلمانية في الفكر المسيحي في لبنان 2
غريغوار حدّاد
يُعدّ غريغوار حدّاد (1924ـ)، الذي عُرف بالمطران الأحمر، من روّاد الفكر العلماني في لبنان. تتمحور تطلّعاته حول تفكّرات إنسانويّة لا تتناول اللاهوت والكنيسة والسياسة والحياة الوطنيّة إلّا من خلال مطلقين لا ثالث لهما، هما الله والإنسان. فكر حدّاد يندرج في إطار نضالي يروم تحرير الله من مفاهيم خاطئة حول كيانه، وتحرير الإنسان من تغرّبات شتّى تمسّ وجوده، وأهمّها الطائفيّة. يجب فهم تنديد حدّاد بهذه الأخيرة واقتراحه إقامة نظام سياسي علماني انطلاقاً من هذه الأسس الفكريّة الإنسانويّة المسيحيّة. يرفض غريغوار حدّاد استيراد علمانيّة غريبة عن السياق اللبناني العربي. فالعلمانيّة التي ينادي بها مرتبطة جذريّاً بسياقه، وهي ترى أنّ الدين (مع تمييزه عن الطائفة والطائفية) كعامل إيجابي يمكن الاستناد إلى الكثير من مقوماته لبناء مجتمع إنساني صالح.
يعتقد حدّاد أنّ العلمانيّة مرفوضة في لبنان بسبب سوء فهمها. فتعدّد الأنظمة العلمانيّة ومنها الملحدة، وعدم التعريف عن العلمانيّة بطريقة واضحة ونهائية عبر مفهوم محدّد يؤدّيان إلى نبذها. ولكنّ الأسقف يظن أن معرفة حقيقيّة للعلمانيّة لا يمكنها أن تؤول إلى الرفض، بسبب ما تحويه هذه الأخيرة من قيم أساسية تعني أصالة الإنسان وعيشه الكريم. لذلك يجتهد حدّاد بإزالة كل سوء فهم حول الأمر عبر عرض للمفاهيم التي لا يجوز الخلط بينها وبين العلمانيّة. فالعلمانيّة ليست العلميّة، أي تفسير العالم انطلاقاً من العلم؛ وهي مختلفة عن أنظمة سياسيّة أخرى على رغم تقاربها أحياناً، كالديموقراطيّة أو المواطنة؛ هي ليست ملحدة، مناهضة للدين أو رافضة لقيمه؛ هي ليست بمسيحيّة أو إسلاميّة، بشرقية أو غربيّة؛ وهي لا تبغي إقامة طائفة إضافيّة بل علمنة النظام اللبناني برمّته. ويزيد المطران الأحمر على ذلك أنّ الاستغلال الجزئي للعلمانيّة يسهم في تشويه المفهوم. فالبعض يريدها فقد لتشريع الزواج المدني أو لمآرب توظيفيّة في الدولة، والبعض الآخر يستثمرها في إطار ايديولوجي سياسيّ يخص مصالحه. مشكلة كل هذه الاستثمارات الجزئيّة تكمن في أنّها لا تهتم بعلمانيّة شاملة هدفها المصلحة العامّة وكل أجزاء المجتمع.
ينادي حدّاد بعلمانيّة شاملة، «تؤكّد استقلاليّة العالم بكل مقوّماته وأبعاده وقيمه تجاه الدين ومقوّماته وأبعاده وقيمه. أي مثلا: «استقلاليّة الدولة، والمجتمع، ومؤسساتهما وقوانينهما، وقضاياهما، وسلطتيهما عن المؤسّسات والقوانين والسلطات الدينيّة». هذا التحديد الذي يفترض قيمة ذاتيّة للعالم ليس بحسب الأسقف أفضل تحديد، ولكنّه صالح للاستعمال وقابل للتطوير، لأنّ العلمانيّة ليست فكراً متحجّراً أو عقيدة دينيّة أزليّة، بل «تفاعل جدلي بين الكيان والفكر والعمل». على العلمانيّة أن تتطوّر أبداً مع تطور الإنسان وتقدّمه. لذلك، فتفاعل الفكر العلماني مع الإنسان اللبناني وتاريخه يؤول إلى اقتراح علمانيّة ذات حياد إيجابي تجاه الأديان، أي علمانيّة تحترم هذه الأخيرة وتتفاعل معها إلى حد تبنّي البعض من قيمها، من دون اعتبارها إلهيّة أو موحى بها، بل وضعيّة وصالحة للإنسان وقابلة للنقد. يريد حدّاد بذلك المحافظة على غنى الإرث الديني والاستفادة منه عبر إدراجه في إطار لا طائفي. يعتقد حدّاد أنّ على تطبيق هذه العلمانيّة الشاملة أن يكون تدريجياً عبر عدّة مراحل، بدءاً بإلغاء الطائفيّة السياسيّة ومروراً بإزالة الطابع الطائفي عن المجتمع، إلى علمنة الإدارات والنقابات والأحزاب والقوانين (بالأخص الأحوال الشخصيّة). فلا يجوز للحياة السياسيّة أن تتمحور حول الطوائف وحقوقها، بل حول المواطن وحياته الكريمة. العلمانيّة تعطي هذا الأخير حريّة اتّباع درب ديني أو لا دينيّ، تحرّر الفرد من الانتماء الطائفي الموروث وتعزّز انتماءه الوطني. أمّا المؤسّسات التعليميّة أو الاجتماعيّة التي هي بمعظمها بين أيدي الطوائف، فيجب على الدولة أن ترعاها مع المحافظة على التعليم الديني واعتباره تعليماً خاصاً غير إلزامي. ويبلغ تطبيق العلمانيّة ذروته عندما تُعدّ العلمانيّة قيمة إنسانيّة مستقلّة عن المنابع الدينيّة مع الحفاظ على التفاعل البنّاء. أمّا محتوى هذه القيمة الإنسانية، فهو «الحرية والعدالة، والمساواة، والتضامن، والسلام، والديموقراطيّة، والفضائل الأخلاقيّة، كالصدق، والإخلاص، والخدمة، والتضحية والفداء».
يؤول تحقيق العلمانيّة الشاملة إلى تحرير لبنان من مآزق عديدة مصدرها الطائفية عبر «إحلال الانتماء الوطني بدلاً من الانتماء الطائفي» وبناء دولة لا يكون أساسَها اتحادٌ فدرالي لمجموعات طائفيّة بل سيادة كاملة أساسها المواطنون. يحل ذلك مشكلة البحث عن هويّات إسلاميّة أو مسيحيّة للبنان، بحيث تصبح هويّة موطن الأرز علمانيّة وإنسانيّة ملتزمة بكل قضايا الإنسان العربي (وأهمّها القضيّة الفلسطينيّة) بغض النظر عن انتمائه الطائفي. وهكذا لا ترتهن الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة لتوازن الطوائف، ولا يجري إنماء المناطق على أساس هوياتها الدينيّة ولكن بحسب الحاجة الإنسانيّة. ويجب على ذلك أن يجعل محاكمة السياسيّين الفاسدين ممكنة، إذ يوضع جانباً التخوّف من ردّات فعل الطوائف. أمّا على صعيد الدين، فالعلمانيّة تساعد على التفريق بين الإيمان من جهة، والمرتكزات الاجتماعيّة الطائفية من جهة أخرى. فالدين ليس الطائفة، والإيمان يختلف عن الانتماء الطائفي. تطبيق النظام العلماني يتيح للمؤمنين «أن يقوموا بالنقد الديني الجذري ضمن إطار ديانتهم، بدون التخوّف من مضاعفات جانبيّة قد تكون عنيفة جدّاً». ويمكن أن يساعد هذا النقد على العودة إلى جذور الإيمان، وإلى التحرّر من المنظومات الطائفيّة. تسهم العلمانيّة أيضاً في تحرير مفهوم الله والأديان من التشويهات الناتجة من خلط الديني بالسياسي وتحرير المسيحيين والمسلمين «السوسيولوجيين» من خوف الزوال لأنّ الدولة تصبح كفيلة بحياة كل مواطنيها. وأخيراً تؤكّد العلمانيّة أنّ «كل إنسان هو القيمة المطلقة بالنسبة إلى الدولة ومؤسساتها وإلى الدين ومؤسساته… وهو الغاية الأخيرة لجميع المؤسسات الدينيّة والمدنيّة، والمقياس المطلق لأجل إحداث التغييرات فيها أو إبقاء ما يجب إبقاؤه من بنياتها وقوانينها». لعلّ العلمانيّة أن تكون مصدر قيم، وأخلاق وحوارات، وأن تعطي المواطن ثقة بالنفس، بعيداً عن كل تعصّب وفي إطار تحقيق ذاتِ كل فرد كما يحلو له.
يعي غريغوار حدّاد صعوبة تحقيق مشروع كهذا لكنّه يؤمن بإمكان إنجازه. فعل إيمانه مبني على قابليّة الإنسان للتطوّر، وعلى قراءة تاريخيّة تظهر تحوّل الكثير من المجتمعات من دينيّة إلى علمانيّة. مشروع كهذا لا يتحقق بين ليلة وضحاها، ولكنّه مسيرة طويلة تبدأ بإنجاز علمانيّات جزئيّة مرماها تحقيق العلمانيّة الشاملة.
أظنّ أن طرحاً كهذا يضع نصب أعيننا تحدّيين، على العلمانيّة اللبنانيّة أن تواجههما: مسألة حقوق الإنسان ومسألة مكانة الدين في المجتمع السياسي. يريد حدّاد أن يضع جانباً تفكّراً يروم الحفاظ على حقوق الطوائف على حساب حقوق الإنسان. فلا تعود علاقة الفرد مع الدولة علاقة منتمٍ إلى طائفة لها حقوق محدّدة، ولكن علاقة مواطن منتمٍ إلى دولته، له حقوق متساوية مع باقي مواطنيه، بغض النظر عن أي انتماء طائفي. أمّا مكانة الدين، فعلى العلمانيّة اللبنانيّة أن تكون نموذجاً لإمكان توافق الدين والعلمانيّة. فقوانين الدولة المدنيّة عليها أن توفّر للمؤمن الإطار السليم والحقوق التي تخوّله عيش إيمانه ودينه والحفاظ على إرثه الروحي. العلمانيّة التي يقترحها حدّاد هي علمانيّة تسهم في البحث عن أصالة إيمانيّة أكبر، لا يكون فيها الدين مسألة وراثيّة أو اجتماعيّة أو طائفيّة، بل خياراُ شخصياً حراً. العلمانيّة الشاملة تعارض خلط السلطة الدينيّة بالسلطة السياسيّة، ولكنّها تجعل من الوطن مساحة يمكن كل الأديان أن تزدهر بها روحيّاً، ثقافيّاً واجتماعيّاً.
الحلقة المقبلة: ميشال الحايك
بقلم الدكتور أنطوان فليفل
جريدة الأخبار 19.03.2010
|
|
Leave a Reply