Newsletter

Pour recevoir les nouvelles du site, entrez votre courriel et cliquez sur « Je m’abonne »

Heidegger et la pensée arabe, Al-Akhbar, 09.03.2012

هايدغر والفكر العربي

 ac5e3186

صدر حديثا عن دار لارماتان في باريس (2011) كتاب “هايدغر والفكر العربي” لأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، البروفسور مشير عون، في سلسلة “الفكر الديني والفلسفي العربي”. يتناول هذا البحث إشكالية تلاقي فكر مارتن هايدغر (1889-1976) الفلسفي والفكر العربي، وهي إشكالية تطرح للمرة الأولى. ففكر الفيلسوف الألماني لم يثر أيّة حشرية فكرية تذكر في العالم العربي، ولم يستثر أي إغراء ايديولوجي. يبغي الكاتب إظهار أهمية التلاقي الإيجابي الممكن بين هذين العالمين، عبر دراسته التي تتبلور في صورة المساءلة، علّ الفكر العربي يجد في “فلسفة الكائن” الهايدغرية مصدر وحي يتناسب وإشكاليّاته الخاصة. يقسم هذا البحث إلى قسمين: فالقسم الأوّل تحليل مقارن لهيكليتي الفكر العربي وفكر هايدغر، والقسم الثاني محاولة مقارنة أنتروبولوجية بين الفكرين. هذه الدراسة هي أيضا بمثابة مدخل رصين إلى ما يقوله هايدغر في الإنسان أو “الكائن هنا” (dasein) والكينونة (sein). وهي تطلع القارئ على التصور العربي الإسلامي المتصل بمقام الإنسان كخليفة، وقد تناول مشير عون هذه المسألة بشكل مفصّل في كتابة “بين الإبن والخليفة” (منشورات المكتبة البولسية، 2010).

 لا شكّ أنّ لقاء الفكر العربي فلسفة هايدغر يحدث نوعا من التوتّر، لأنّ نشوب هذا الفكر في التربة الإسلامية يجعله حذرا تجاه فلسفة تحوي في أساسها التعددية الفكرية، وتعتبر تعدد الخطابات حول الكينونة شرعيا، إذ “يمكن كل الثقافات أن تدرج عطاءاتها في سفر الحقيقة، بالقدر الذي تجهد عقولها في إظهار تنوع الكينونة الذي لا ينضب”. ويتعارض هذا المنطق الذي يندرج في “لاهوت تعددي” (انظر: مشير عون، النور والمصابيح، جامعة البلمند 2010)، يتعارض والأنظومة الدينية الإسلامية، وهي أنظومة اقصائية عندما يتعلّق الأمر بالحق الإلهي. ولكن، بالرغم من هذه العقبة، يعتقد عون أن منهجية المساءلة التي يتبعها في بحثه هي سبيل مناسب وخلاصي، يمكن الفكر العربي السير به من أجل إحداث “حيوية نقدية فريدة”. ولهذا التفكّر تداعيات تصيب “تحرير المجتمع العربي من أعمال اللاعدالة المُمارسة ضد وجود الإنسان التاريخي، من دون السقوط في التجربة الايديولوجية، وتحرير الذات العربية من الانحرافات والأمراض التي تكبلها”. وعليه، فجل ما يمكن فكر هايدغر تقديمه هو حثّ الفكر العربي على مساءلة ذاته في ضوء مسألة “الكينونة” بكل ما تحويه من انفتاح تعددي، ومساءلة “الكينونة” في ضوء إشكاليات العالم العربي الخاصة. يعي الكاتب عمق الهوة التي تفصل بين هذين العالمين، وانعدام محاولات التقارب في تاريخ الفلسفة الحديثة، وهو يقر بحدود بحثه فيصفه “بمحاولة” لا تعد بشيء بل تشقّ طريقا جديدا وفذّا في عالم البحث الفلسفي.

 ولمّا كان تحديد منطلقات فلسفة هايدغر سهلا من خلال الإستناد إلى كتابات الفيلسوف وهي في متناول الباحث، غير أنّ المسألة تتعقّد عندما يتعلّق الأمر بالفكر العربي. فهذا الفكر قد تطوّر وتبلور عبر العصور ومن خلال ثقافات متعدّدة تؤول بنا على الأقل إلى ثلاثة أنواع من الفكر العربي المعاصر: أ- الفكر العربي الديني الإسلامي، ب- والفكر العربي العلماني الذي يدور في فلك الفكر الغربي، ت- والفكر العربي التوفيقي، وهو أمين للتقليد ومنفتح على الحداثة. ويضاف إلى ذلك مشكلات أخرى ومنها إنشاء وصال في القربى بين فكر هايدغر والفكر العربي، ومنها أيضا اختلاف سياقات نشوء هذين الفكرين، والإستعمال المتمايز للمصطلحات، وفقر الترجمات، والإطلاع المحدود جدا على فلسفة هايدغر في العالم العربي وهي لا تستهوي بتعقيدات مصطلاحاتها ومفاهيمها القارئ. أمّا الإشكالية الأكبر التي على هذه المقارنة أن تواجهها، فهي تتحدّد في عمق الفكرين، إذ إنّ فكر هايدغر هو فكر أنطولوجي بامتياز محوره علاقة متوتّرة بين “الكائن هنا” و”الكينونة” الذي لا يسمّيه الفيلسوف، في حين أنّ الفكر العربي هو فكر لاهوتي بعمقه، محوره الحق الإلهي وجدلية الوحي والعقل. أمّا منهجيّات الفكرين، فهي أيضا في حال تمايز متباعد، إذ إنّ فكر هايدغر يرنو إلى “تفكيك” البناء الماورائي للفلسفة المعاصرة، في حين أنّ منهجية الفكر العربي تقوم على “تأقلم” المتوارث والتقليدي مع ما هو حديث، من دون الغوص في مساءلات نقدية جذرية.

 يتلاقى الفكران حول مسائل عدّة، ومنها علاقتهما مع الغرب. فهما ينظران إليه مفتونين على ما يحويه من قدرات كامنة في ذاته ومتشككين مما بإمكانه أن يؤول إليه. وأمّا إحدى المسائل اللأساسية التي تجمع فكر هايدغر بالفكر العربي، فهي مسألة اللغة. فالفيلسوف الألماني يعتبرها مُؤسسة لهويّة الأمّة والإنسان الذي ينوجد ويولد من خلالها إلى حقيقته كراع للكينونة. والفكر العربي ينظر إلى اللغة العربية “كالمستودع الأساسي للروح وللهوية العربية”، وهي “العنصر المؤسس للوعي العربي الجماعي”.

 يقترح الكاتب سبلا شتى للاستفادة وللتبادل بين فكر هايدغر والفكر العربي، نذكر منها إثنين. أ- إنّ أصالة الإنسان تمرّ بالنسبة إلى الفيلسوف الألماني بعالميته (mondanité)، وبزمنيّته (temporalité) وبتارخيّته (historialité). ويعتقد مشير عون أنّ على الفكر العربي أن يضمّ إلى تصوّره للإنسان هذه المكوّنات الثلاثة التي تثنيه عن النظر إلى الإنسان ككائن مجرّد ومنزّه عن العالم والزمن والتاريخ، يقتصر انتماؤه على الحق الإلهي الأزلي وكل ما يتأتّى منه. ب- يتناول هايدغر النظرات المختلفة إلى الله، كنظرات الفلاسفة أو الأنظومات الدينية المرتكزة على الوحي الإلهي، ويميّز بين تلك “الآلهة” والإله الذي تحتمل بعض نصوص الفيلسوف، من دون جزم واضح، أن ينظر إليه كأصل للكون. فيضحي بذلك مصدر كل “الآلهة” ومبدأها، أي الخِطابات والمفاهيم الدينية أو الفلسفية للإنسان حول الألوهة. يعتقد عون أنّه يمكن لهذا التفكّر أن يُترجم في الفكر العربي بلاهوت تعدّدي يقرّ بشرعية الخطابات المختلفة في الله، من دون أي إقصاء، أو تعال،أو احتواء.

 نظرة هايدغر إلى الإنسان نظرة أنطولوجية، وهو يدعوه “الكائن هنا” الذي “عليه أن يتعلّم كيف يراقب تجلّيات وانحجابات الكينونة باحترام ومودة”. فالإنسان هو “الكائن هنا” الذي يسكن قرب “الكينونة”، وهو يسمح بحضوره وبحضور السؤال عنه. تظهر الحقيقية انطلاقا من ذلك كنتيجة للحراك بين “الكينونة” و”الكائن هنا” الذي هو تجلّ له. وهذا المنطق يتعارض وكل فكر إقصائي يحصر الحقيقة في مكان واحد، ويتعارض أيضا والنظرة الحديثة إلى الإنسان تختزل هويته في قدراته العقلية وقدرته على السيطرة التقنيّة على العالم. أمّا نظرة الفكر العربي إلى الإنسان، فهي بالنسبة إلى الكاتب متأثرة بشكل جذري بالنظرة القرآنية التي تقول بأنّ كل شيء مصدره الله وأنّ لا شيء يمكن تفسيره من دون الله. فعلى الإنسان أن ينصاع ويستسلم ويعترف بسلطة لله المطلقة لكي يبلغ أصالته. الإنسان القرآني هو إذا مرهون لمشيئة غير مشيئته، ومنصاع لقدرة غير قدرته. ويعلّم القرآن أنّ الإسلام هو دين الفطرة، الدين الكوني للإنسان، بمعنى أنّ كل إنسان يولد مسلما. وعليه، فالإنسان هو “خليفة” لله، مؤتمن من خالقه على سياسة الدنيا وأمورها بحسب تعاليم الشريعة الإلهية الأزلية. على عكس نظرة هايدغر التي تولي الإنسان قيمة ذاتية بحيث يضحي تجلّيا “للكينونة” وكشفا للحقيقة التي تظهر من خلال الحراك الموجود بين “الكائن هنا” و”الكينونة”. إنّ مصير الإنسان القرآني ترسمه مشيئة الله الذي يديره بحيث يضحي وجوده رهن كلمة تأتيه من خارج عالمه. فالإنسان بذاته ومن دون الله لا شيء، وهو لا يمكنه الإستقلالُ الوجودي.

 يعتبر مشير عون أنّه يجب على النظرتين العربية والهايدغرية للإنسان أن تكونا منطلق كل مقارنة وتلاقح بين الفكر العربي وفكر هايدغر. ويرى أنّ هناك تقاربا بين إنسان هايدغر، “الكائن هنا” الذي يستسلم بشكل ما “للكينونة”، وإنسان القرآن، “الخليفة”، الذي يستسلم بشكل مطلق لله. وفي حين يحاول الإنسان القرآني فهم كلمة الله عبر الحفاظ على خلقه، يحاول إنسان هايدغر فهم كلمة “الكينونة” من خلال رسالة خلاصية تدفعه إلى المحافظة على الأرض والسماء، وعلى البشر والآلهة. ولكن بالرغم من هذا التقارب الممكن، فإن هويّة لله الإسلامية تختلف جذريا عن هويّة “الكينونة” الهايدغرية. ولهذا الاختلاف تداعياّت انتروبولوجية مباشرة، فالإنسان “الخليفة” يحقق مشروع الله، أمّا الإنسان “الكائن هنا” فيحقق مشروعه الخاص في العالم. يخلص عون إلى القول إنّ تلك النظرتين للإنسان مختلفتان ولا تأتلفان في عمقهما. ولكن، بالرغم من ذلك، يعتقد الكاتب أن “غياب الإئتلاف لا يبطل إمكانيات التلاقي والمواجهة والتبادل. لأنّه يمكن للغرباء فقط أن يلتقوا بالحق وبالعمق”.

 يختم الكاتب بحثه في التكلّم على قدرات تلك النظرتين إلى الإنسان، النظرة العربية وهي لاهوتية محورها الله، والنظرة الهايدغرية وهي أنطولوجية ومحورها الكينونة. وهي قدرات تتيح للإنسان أن يبلغ إلى أصالته التاريخية والوجودية والأخلاقية. يتّخذ عون موقف المشكك الناقد ويتساءل هل تكون النظرة الأنتروبولوجية إلى الإنسان هي السبيل النيّر إلى ذلك: “فعلى عكس أنتروبولوجيا الكينونة الهايديغيرية، وعلى عكس أنتروبولجيا الفكر العربي اللاهوتية، تقترح الأنتروبولجيا الإنسانية على نفسها الحفاظ على المرجعية التارخية للكائن الإنساني”. ويعتقد عون أنّ “تدبير الأصالة الوحيد الذي ينبغي عليه أن يوجه وجود الإنسان البشري عليه أن يحترم بشكل مطلق الغيرية والعلاقة الانفتاحية بين الذوات”.

بمناسبة صدور هذا الكتاب، تنعقد في نهار السبت 10 آذار في الساعة الرابعة بعد الظهر، ندوة فكرية في مبنى الحركة الثقافية – أنطلياس، يتناوب فيها على الكلام الأساتذة الجامعيون ناصيف نصار، وموسى وهبه، وأنطوان فليفل.

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 09.03.2012

Autour du colloque de “L’institut kurde à Paris” sur la crise syrienne, Al-Akhbar, 08.02.2012

ندوة «المعهد الكردي في باريس»: الأزمة السورية وسؤال التــدويل

25 syrie

نظّم «المعهد الكردي في باريس» ندوة دولية في العاصمة الفرنسية الأسبوع الماضي، عنوانها: «الأزمة السورية، رهانات وآفاق». وقد رعى مجلس النوّاب الفرنسي هذه الندوة عبر استضافته لها في أحد مبانيه. برنامج الندوة يعطي المطلع عليه فكرة واضحة عن المنحى السياسي الذي ينحو إليه هذا الحدث الذي يستضيف عدداً لا بأس به من المعارضين السوريين الأكراد المنضوين إلى «المجلس الوطني السوري»، إلى جانب عدد من الشخصيات الأخرى المؤيّدة لهذا المجلس أو المتعاطفة معه. تكمن أهميّة حضور هذه الندوة في الاستماع إلى آراء المحاضرين المعارضين لنظام الرئيس الأسد وتحاليلهم ومطالبهم، وبالأخص قراءات رصينة قام بها اختصاصيون فرنسيون في علم السياسة، في القضايا الإقليمية والدولية التي يجب أخذها في الاعتبار لدى تناول إشكالية الأزمة السورية الراهنة.

القراءات الجيوسياسية لللأزمة السورية لافتة؛ إذ تخرج سامعها من متاهات السياسات الداخلية، والتعبئات الإيديولوجية، والحروب الإعلامية، والحسابات الفئوية الضيّقة المختلفة التي تمنع العقل من إدراك واقع معقّد تتخطّى آفاقه السياق السوري، والعربي، والشرق أوسطي. قراءات تدرج أحداث سوريا الآنية ضمن صراع كوني حاصل بين قوى سياسات إقليمية والدولية. يخلص هذا النوع من القراءات إلى اعتبار الثورة السورية أكثر الثورات العربية تدويلاً، التي تحدث بذلك انقطاعاً في دائرة الثورات؛ إذ تضحي أزمة إقليمية ودولية. والعامل الأساسي الذي يدوّل الثورة هو عامل الوقت. فعلى عكس الثورتين المصرية والتونسية اللتين انتهيتا في أقل من شهر، قارب عمر الثورة السورية العام، وهذا العامل يولد التدويل، والعنف، والعسكرة، والتصرّف الميليشياوي. ويضاف إلى ذلك موقع سوريا الإقليمي، وقوامه مكانة متجذرة ومعقدة ضمن الصراع العربي الإسرائيلي، والمواجهة الحاصلة بين إيران والغرب، والتشنجات المتصاعدة بين العالمين الشيعي والسني، وبين بلدان الخليج وإيران، وحتى داخل التيارات الإسلامية. أمّا على صعيد السياق الدولي، فهناك ثقل حول سوريا ومناخ حرب باردة بين القوى العظمى في مجلس الأمن. فسوريا خاضعة الآن لصراع بين فريقين إقليميَّين ودوليَّين: مجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية، وتركيا والبلدان الغربية من جهة، وروسيا وحلفائها كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا من جهة أخرى. وهذا الواقع ليس طارئاً على سوريا التي كانت في الخمسينيات والستينيات ساحة مواجهة دولية.

 النظرة الجيوسياسية للواقع السوري تتجنّب فهم الصراع كمواجهة صرفة بين الديكتاتورية والديموقراطية. فالمسألة ليست مسألة أخلاقية تسعى فيها الأمم المتحدة إلى إحلال الديموقراطية في سوريا، بقدر ما هي مسألة صراع بين قوى دولية. فهناك في سوريا قضايا عديدة لديها أبعاد عالمية، ومنها الصراع بين الغرب وإيران. فلا شك في أنّ إيران ستكون أضعف في هذه المعركة من دون حليفتها العربية سوريا. لكن المسألة الأهم تطاول إسرائيل وأمنها. فمن الواضح أنّ النظام السوري كان في السنين العشرين المنصرمة ثقلاً موازناً لإسرائيل؛ إذ ساعد في تسليح حزب الله ودعمه في 2006، أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وقد دعم المقاومة الفلسطينية في غزة في 2008. وتلك المعطيات لا يجب التخفيف من أهميتها، بالأخص في وجه دعم مطلق من الولايات المتحدة لإسرائيل باستيطانها واحتلالها للأراضي الفلسطينية، من دون أن يقوم المجتمع الدولي بأيّة حركة عملية تتخطّى الإدانات الورقية غير المجدية. والتفكير بأنّ إسرائيل غير معنية بهذا الصراع الإقليمي غير واقعي، لأنّ هناك قراراً دولياً مبنياً على مصالح مختلفة، ومنها العلاقة الوطيدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وقوامه التخلّص من النظام السوري، لا لأنّه ديكتاتوري أو غير ديموقراطي فقط، بل أيضاً لأجل مصالح الدول الغربية وأمن إسرائيل. خلصت أغلبية المداخلات الجيوسياسية في المؤتمر إلى التكلّم على طريق مسدود أمام الوضع السوري الراهن، فلا النظام قادر في رأيها على الانتهاء من هذه الأزمة، ولا المعارضة قادرة على التخلّص من هذا النظام؛ لأنّ حل التدخل العسكري الأجنبي غير وارد. والخوف الأكبر من هذا الوضع يكمن في أن تؤول الأمور إلى حرب أهلية تكون تداعياتها سيئة على كل المنطقة. وقد أمل أحد المحاضرين أن تُحل الأزمة من خلال تأسيس مرحلة انتقالية يكون فيها عناصر من النظام الحالي كما حصل مع ديكتاتوريات أميركا اللاتينية، وقد آلت إلى إيجاد حلول مقبولة وجنّبت دولاً عدّة الحروب والدمار والقتل. تقع مسؤولية خلق هذه المرحلة الانتقالية والتفاوض على عاتق المجتمع الدولي.

 جمعت الطاولة الأخيرة من المؤتمر الباريسي أربعة محاضرين يمثلون الجانب «غير العربي» في المعارضة السورية، ويتكلّمون على مطالب «الأكراد» أو «الأقليّات» الأخرى الذين يقولون إنّهم يمثّلونها. قراءاتهم بأغلبها تختلف عن التحاليل الجيوسياسية الشاملة للأزمة السورية، وتندرج في معظمها ضمن مطالب سياسية محليّة مباشرة، لا تخلو من الشعر أحياناً، ولا تخفي الانقسامات والتباينات الموجودة ضمن «المجلس الوطني السوري». ومن أهم ما طالب به الحاضرون، نقض القومية الواحدة، أي «القومية العربية»، واللغة الواحدة، والمطالبة بتغيير طبيعة الدولة. نظام الدولة القومية في العالم العربي، وبالأخص في سوريا، «أفلس من الجوهر؛ لأنّه يتناقض مع تنوع المجتمع»؛ إذ يجب تجاوز القومية العربية وبناء الأمة الديموقراطية الضامنة للتعددية. بناءً عليه، إنّ حل الأزمة السورية يكمن في حل المسألة الكردية التي هي «جوهر عملية الدمقرطة في سوريا». ويذهب أحد المحاضرين إلى المطالبة ببناء دولة تعددية برلمانية علمانية، بعيداً عن العنصرية، دولة المساواة والقانون التي تصون الحقوق. ويطالب بإقرار دستوري بوجود الشعب الكردي كأحد مكونات الشعب السوري الرئيسية، وكثاني أكبر قومية فيه. فيجب «إيجاد حل ديموقراطي عادل لقضيته القومية بما يضمن حقه في تقرير مصيره بنفسه ضمن وحدة البلاد»، وفي ظل لامركزية سياسية تضمن حق الأقليات. وقد أكّد محاضر آخر أنّ الأشوريين يبحثون مع شركائهم الأرمن والعرب والأكراد عن إنشاء نظام ديموقراطي وعلماني مبني على العدالة والمساواة والمواطنة، والاعتراف بوجودهم كشعب أصلي وبضمانته وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولكل الاتفاقيات الدولية الضامنة لوجود الأقليات.

 لا شكّ في أنّ خلاصات هذا المؤتمر الجيوسياسية تضع في متناول قارئ تطور الأوضاع في سوريا معطيات جديّة تكوّن مادة رصينة للتفكّر في هذه الأزمة المستعصية، وتخرجها من التعبئات الإعلامية والإيديولوجية المختلفة. ولا ريب في أنّ الاستماع إلى مطالب البعض وتفكّراتهم، أمعارضين كانوا أم مناصرين، يساعد المرء على توضيح نظرته إلى الآخر ويحثّه على الحوار، وهو أفضل الحلول وأصعبها. لكن تساؤلات كبيرة تُطرح في هذا السياق من الاستماع والبحث. فتفتة القوميات تلك مقلقة، وأخشى أن تعطي ذريعة إضافية للكيان الصهيوني الذي يبحث عن كل شرعية يمكنه إيلائها لقوميته العنصرية. وتناول العروبة بهذا النحو مؤلم، لأنّها ليست قومية موازية للقومية الكردية أو الأرمنية أو الأشورية. فالعروبة حضارة وثقافة بناها المسيحيون والمسلمون واليهود والعلمانيون، وهي فكر إنسانوي وكوني وحضاري يتخطى الحسابات السياسية الضيقة. وتحزّ في القلب غياب القضية الأم عن المناقشة، القضية الفلسطينية، والخشية أن ينال بعض «ثوّار» الدول العربية تأييداً ومساعدة ممن يدعم من دون هوادة من يقتل كل يوم شعب فلسطين، لأنّ من يعطي في السياسة، يحاسب حتماً…

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 08.02.2012

Georges Corm : le printemps arabe n’est pas une conspiration, Al-Akhbar, 24.01.2012

Lire l’article en anglais

 

جورج قرم: الربيع العربي ليس مؤامرة

24 corm

■ الجيوسياسة حاضرة في أغلبية دراساتك، هل يمكنك تحديدها لنا؟

الجيوسياسة كلمة مركبة تعني مقاربة لأوضاع نزاعية الطابع في غالب الأحيان، لها علاقة بالموقع الجغرافي لدولة ما وبجوهر كيانها السياسي، فنجمع هنا بين مقاربة جغرافية نزاعية وبين مقاربة سياسية.

■ ماذا يمكن أن تضيف هذه المقاربة إلى فهم العالم العربي وإشكالياته؟

أنا رأيت أنّ مصير المجتمعات العربية هو في نهاية الأمر مرتبط بالوضع الجغرافي للمنطقة العربية، بالإضافة إلى كل من إيران وتركيا، إذا اعتمدنا مفهوم الشرق الأوسط. فللمنطقة ثلاث ميزات تستجلب التدخل الخارجي. فهي منبع الديانات التوحيدية الثلاث التي انتشرت عالمياً، وهي موقع جغرافي استراتيجي. وأخيراً هناك وجود النفط الذي جلب أطماع الدول الاستعمارية الكبرى والغنية. هذه الميزات الثلاث لا تزال موجودة، وتضاف إليها مشكلة أخرى عند العرب: فهم على خلاف الأتراك والإيرانيين، بعد أفول الخلافة العباسية، خرجوا من التاريخ السياسي للعالم، وأصبح الفرس والأتراك هم أسياد المنطقة. فعندما انهارت السلطنة العثمانية، وجدت المجتمعات العربية نفسها يتيمة، هي التي تعودت العيش في ظل الخلافة الإسلامية. وكانت تنقص هذه المجتمعات أيّة خبرة لإدارة نفسها بنفسها. هذا بالإضافة إلى تمزّق المجتمعات العربية بين الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي، وزرع الكيان الصهيوني في وسط المنطقة العربية فصلاً بين المشرق والمغرب العربي. وبعد المرحلة الناصرية التي جمعت العرب في مرحلة ما، تشتت العرب وتشرذموا، وأصبحت كل دولة عربية تتحالف مع جهة خارجية بدلاً من أن تتحالف الأنظمة العربية في ما بينها. لذلك سميت المنطقة العربية في شكل خاص منطقة فراغ القوة الذي جذب حينها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، برزت إيران كقوة إقليمية مهمة ومعادية للولايات المتحدة، فاستمر الانقسام بين الأنظمة العربية. والآن نشهد صعود القوى التركية، ومن غير الواضح إن كان هذا الصعود بالاتفاق مع الولايات المتحدة لتتصرف تركيا كوكيل للمصالح الأميركية، أو إذا كانت هي حركة ذاتية للمجتمع التركي.

■ هل من رابط ما للفلسفة أو للمنهجية الفلسفية بالجيوسياسة؟

الرابط مباشر وأساسي، إنما لسوء الحظ، معظم الاختصاصيين بأمور السياسة الدولية والعلاقات الدولية قليلاً ما يعطون لعامل الإدراك الفلسفي للعالم، في صياغة سياسات الدول الكبرى، الأهمية التي يستحقها. ففي معظم الأحيان، تأتي عمليات الاستيطان والاستعمار لتختبئ وراء أهداف نبيلة فلسفية الطابع. فعندما غزا الأوروبيون العالم كان باسم تنوير الشعوب دينياً لكي تتعرف إلى المسيحية. وفي القرن التاسع عشر، كان الغزو باسم الحضارة ليساعدوا شعوباً متأخرة حضارياً. وساهم أيضاً الفكر الفلسفي الماركسي في تأييد هذا النوع من الحجج الفلسفية الطابع، لأنّ كارل ماركس كان يرى ضرورة أن تنفتح الدول «المتخلفة» للرأسمالية الحديثة، لكي تتسرع عملية التحوّل من النظام الرأسمالي البورجوازي إلى نظام اشتراكي بروليتاري. لدينا منبعان فلسفيان: فلسفة هيغل وفلسفة كارل ماركس. فقد تشابكا ليبررا كل الحملات الاستعمارية، ومن ثمّ لدينا في الفترة الأخيرة، المحافظون الجدد الأميركيون، مثل ريغان وبوش، الذي باسم الديموقراطية، غزا العراق. يجب تفكيك الحجج الفلسفية التي يحملها أي غاز أو أية دولة تقوم بشن الحروب، فذلك يتطلب باستمرار نوعاً من الشرعية الفلسفية أو الدينية.

■ ما هي المكوّنات الأساسية لفكرك؟

أنا أردت أن أعالج شيئين متكاملين. أولاً شعرت منذ دراستي في باريس بالادعاء الأوروبي في امتلاكهم الحكمة والفلسفة والانسانوية، على خلاف الشعوب الأخرى. فصدمت بنوع من النرجسية عند الدول الأوروبية، وهذا مسار طويل أدى في نهاية الأمر إلى وضعي كتاب «تاريخ أوروبا وأسطورة الغرب». ثانياً، كلما تعمقت بالثقافة العربية المعاصرة تبيّن لي مدى ارتباطها بشكل تابع إلى الفكر الغربي، وعدم اطلاعنا على الفكر الصيني والفكر الهندي وفكر الحضارات والمدنيات الأخرى. نحن أصبحنا في نوع من اللقاء وجهاً لوجه مع الغرب الأوروبي والأميركي. لقاء يضعنا في نوع من السجن، غوانتنامو فكري، لأنّ فكرة الاستقلال الفلسفي ضعيفة للغاية عندنا، وقد دعا إليها صديقنا ناصيف نصار. فشعرت بأنّ حتى الحركات الاسلامية الأكثر تشدداً هي في نهاية الأمر نتاج علاقة مرضية مع الفلسفة الغربية والنظرة الغربية إلى العالم. وبالفعل، ماذا نرى عند النخبة العربية المثقفة؟ إما انبطاحاً شاملاً أمام النظام الإدراكي الغربي للعالم، أو نوعاً من الرفض الهستيري له. وذلك في طبيعة الحال تبعية للمنظومة الفكرية الغربية. فأصبحت أدعو إلى الخروج من هذه التبعية، لتأسيس نظام إدراكي معرفي عربي، أي نظام يأخذ بالحساب حقيقة تاريخنا، ويبني هذه المنظومة المعرفية على ذلك. مثلاً، أهم سؤال لم يبحث به أحد هو: لماذا خرج العرب من الحكم؟ما دمنا لا توجد عندنا إجابة عن هذا السؤال، لا يمكننا بناء مستقبل أفضل. كيف انتهت الفتوحات العربية التي أسست للحضارة الإسلامية إلى العرب بالخروج من التاريخ. بالإضافة إلى ذلك طبعاً هناك التخبط بمسائل الهوية عند العرب، منذ زعزعة كيان السلطنة العثمانية في القرن الماضي، والتخبط بشكل خاص بين التمسك برابط ديني أو الدخول إلى التاريخ الوضعي. وإلى الآن المعركة دائرة بشكل كبير في الثورات العربية الأخيرة التي تتلخص في التنافس بين مفهوم الدولة المدنية العلمانية، ومفهوم دولة مرجعيتها أساساً الدين.

■ بما أنّنا تطرقنا إلى ذلك، كيف تقرأ إشكالية العلمانية والطائفية في لبنان؟

أعتقد أنّ لبنان كان له دور طليعي في القرن التاسع عشر، خاصة بعد المجازر الطائفية التي أيقظت العقل اللبناني. لكن نظام المتصرفية أسس لأول مرة في تاريخ لبنان لطائفية سياسية، ثم كرس عهد الانتداب في القانون العام وجود الطوائف كهيئة وسيطة بين المواطن وبين الدولة. وبعدها سعت وثيقة الوفاق الوطني إلى تهذيب الطائفية، وإعادة تكريسها بنحو أكثر توازناً بين الطوائف. نحن لا نزال أسرى الثقافة الطائفية، وهي ثقافة كارثية لأنّها تجعل من الإنسان العربي ينظر إلى أمور الدنيا من خلال المنظار الديني والمذهبي والطائفي، فلا يترقى إلى النظرة الوضعية. عندما بدأت الحرب الأهلية اللبنانية في 1975، كان المحور الأساسي القضية الفلسطينية، وما كان يجب أن تتحول إلى صدام بين المسلمين والمسيحيين. فلو طرحت بالشكل الصحيح، لما استدعت استنفار الشعور المذهبي، لأنّ القضية في لبنان كانت حول الوجود الفلسطيني المسلح. ويؤسفني أيضاً أنّ الجهات التي أعلنت الحرب على المنظمات الفلسطينية المسلحة هي اليوم مستعدة للتوطين، ولكل المقاربة الغربية السعودية، أو «العربية المعتدلة» للقضية الفلسطينية. وأنا اقول دائماً إنّنا في كثير من الأحيان نخسر ما نكسبه في المقاومات عندما تصبح المقاومة لها طابع ديني. فالقضية الفلسطينية ليست قضية دين، بل قضية احتلال شعب واستيطان. لو كان البوذيون أتوا واستوطنوا فلسطين، لجوبهوا بمقاومة شرسة. حتى لو أتى مسلمون أتراك أو إيرانيون واحتلوا فلسطين، أعتقد أنّ الفلسطينيين كانوا انتفضوا. جعل قضية فلسطين مجرد صراع أديان يقلل في نهاية الأمر من الإنجازات التي حققناها أخيراً في المقاومة.

 ■ ما هي آفاق الربيع العربي برأيك؟

لا شك في أنّ أحداثاً تاريخية حصلت، فيها ذاتية كبيرة. لم تثر الشعوب العربية نتيجة مؤامرة خارجية كما يحلو للبعض اعتقاده. لكن بطبيعة الحال، بسرعة كبيرة جداً دخلت الدول الغربية الكبرى في حمّى استعمارية جديدة، ولازمتها القوى المحافظة المعادية للحداثة السياسية ولحرية الإنسان التي كانت تسمى بالرجعية العربية في الماضي. كذلك دخل العنصر التركي على الخط وابرز نموذجاً إسلامياً كوجهة سير للثورات العربية. هذا طبعاً سيغرّب الثورات العربية ونرى نتائج مؤلمة سواء في ليبيا أو في سوريا أو في اليمن. ويبقى أن نرى إلى أي مدى ستذهب الثورات في مصر وفي تونس. وعلى كل حال، إنّ الثورات تأتي في حلقات، وقد انفتحت حلقة ثورية في العالم العربي. لكن من الصعب التنبؤ إلى أين ستذهب. أنا دائماً أقول إنّ الثورة الفرنسية انفجرت في 1789 وأعطت نتائجها النهائية فقط بعد قرن، أي عند تنظيم الجمهورية الثالثة، وإبعاد النظام الملكي عن فرنسا، وتثبيت المبادئ الجمهورية. فالحلقة الثورية تأخذ وقتاً طويلاً للغاية، وهي ليست ضربة سحرية تغيّر الأوضاع. وأنا أتصور أنّنا فقط في بداية مسار. وبطبيعة الحال، انزلاقنا إلى مناقشة قضايا دينية ومذهبية باستمرار هو نوع من الاشهار للثورة: فالنظر إلى ما حصل في البحرين وسوريا واليمن من منظار مذهبي هو خطأ. التحليل في غياب المنظومة الفكرية المستقلة والفلسفية هو مرض، فنحن نحلل حسب أدوات وأساليب الدعاية الغربية والأكاديميات الغربية والإعلام الغربي، ونحلل كل شيء بالمنظور المذهبي والطائفي. الولايات المتحدة بدأت قبل بضعة أشهر من غزو العراق بنشر وجهة نظر حول بلاد بين النهرين تقضي بأنّ المسألة تتعلق بأقلية سنية اضهدت أغلبية شيعية. طبعاً هذا النوع من التبسيط الذي نراه اليوم في تحديد الوضع في سوريا أيضاً هو مؤسف للغاية، وهو يؤدي إلى الهلاك وإلى الكارثة. يجب أن نخرج من التحليل المبني فقط على النظر إلى الشعوب العربية كشعوب دينية ومذهبية الطابع، لنرى حقيقة المعطيات الوضعية على الأرض: قضايا الفساد، والعدالة الاجتماعية، والاقتصاد الريعي الذي يؤبد أنظمة استبدادية. فكل مسار الديموقراطية يدل على أنّ الديموقراطية تقوم على تدمير الاقتصاد الريعي. ولسوء الحظ، إنّ الاقتصاد العربي إلى حد كبير اقتصاد ريعي.

تعريف

جورج قرم (1940) خبير اقتصادي ومالي لبناني، اختصاصي في شؤون الشرق الأوسط ودول حوض البحر الأبيض المتوسط. درس القانون الدستوري والعلوم الاقتصادية في جامعة باريس، وتخرج من معهد العلوم السياسية في باريس. شغل منصب وزير المال في حكومة سليم الحص من 1998 إلى 2000. هو أستاذ محاضر في الجامعة اليسوعية، وقد علّم سابقاً في الجامعة اللبنانية والجامعة الأميركية. له دراسات عديدة، وقد وضع عدداً كبيراً من الكتب والمقالات المتخصصة باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، منها: «شرق وغرب: الشرخ الأسطوري»؛ و«لبنان المعاصر: تاريخ ومجتمع»؛ و«المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين» (نال عنه جائزة «فينيكس»)؛ و«تاريخ الشرق الأوسط ــ من الأزمنة القديمة إلى اليوم».

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 24.01.2012

Hossein Al-Aoudat : à quand la Nahda arabe ?, Al-Akhbar, 11.01.2012

حسين العودات: متى النهضة العربية؟

23 aoudat

صدر حديثاً عن دار الساقي كتاب حسين العَودات، «النهضة والحداثة بين الارتباك والإخفاق» (2011). هذه الدراسة موسوعيّة، فهي تطلع قارئها على تفاصيل محورية وخطيرة تطاول تطوّر الفكر العربي النهضوي خلال قرنين، وهي تتيح لأهل الاطلاع تعميق معرفتهم بقرائن تاريخيّة وفكرية ضرورية لفهم أحوال العالم العربي الآنية وتمخضاته ونزاعاته. كما تسلّط الضوء على الطاقات الكامنة في الفكر العربي الذي لا يمكن اختزاله بشبه الفراغ المرعب الذي نواجهه الآن، وتطلعنا على تأويلات دينية إسلامية وليدة القرن التاسع عشر، كالاعتقاد أنّ الإسلام «دين ودنيا»، يمكن المرء اعتقاد عمرها من عمر الدعوة الإسلامية. إنّ صدور كتاب العَودات في زمن «الربيع العربي» مرحّب به، لأنّه يجعلنا ندرك أنّ الإشكاليّات التي يتمخض بها سياقنا ليست بحديثة، بل هي نفسها منذ قرنين، تبحث عن حلول لا تزال تتأرجح بين توق الإنسان العربي إلى الحريّة والأصالة، وتسلّط الاستبداد السياسي والأصوليات الدينية. فأسئلة النهضة العربية لا تزال ماثلة أمام المجتمعات العربية، “…لأنّ هذه الأسئلة لم تتلق الإجابات الضرورية التي تحتاج إليها، فبقيت قضايا أساسية تتعلق بمراحل النهضة والتنوير والإصلاح والحداثة والعلمانية والديموقراطية ومفاهيم الدولة الحديثة، تقلق المثقفين والسياسيين والنخب العربية، وتؤثر سلباً على تطوّر المجتمعات العربية، وتثير الصراعات السياسية والفكرية والأيديولوجية داخلها”.

 تنقسم دراسة العَودات إلى ستة فصول تعالج مفاهيم متشابكة بعضها ببعض بشكل جذري، بحيث لا يمكن تناول الواحد من دون التطرّق إلى الأخرى. فالنهضة الأوروبية والنهضة العربية، والحداثة، والعلمانية، والديموقراطية وإشكاليات الوطن والقومية والدولة هي مفاهيم متلازمة، لا يمكن إدراكها إلا من خلال قراءة شاملة لتطوراتها وترابطها. ويساعدنا الكاتب على فهم تلك الإشكاليات عبر عرض أفكار عشرات النهضويين من مختلف التوجهات الدينية والثقافية والسياسية، ومن خلال شرح «أسباب فشل النهضة والحداثة وإخفاقهما في البلدان العربية». ومن أهم تلك الأسباب: محاولة نقل «المفاهيم الأوروبية إلى المجتمعات العربية كما هي بلا مواءمة، منطلقين من مفهوم أنّ ما صلح هناك يصلح هنا»، والسلفيّة الدينية الإسلامية، والأنظمة السياسية الاستبدادية. من المستحيل كتابة تحقيق شامل عن تلك الدراسة بعدد قليل من الكلمات، لما تحويه من مادّة فلسفية دسمة جدّاً، ومن جمّ من التفاصيل التاريخية والفكريّة والفقهية. لذلك، سنتطرّق باختصار كبير إلى مادّتي النهضة والحداثة المحوريتين فقط، تاركين للقارئ لذّة التمتّع بقراءة النص الأصلي لهذا الكتاب المرجعي.

 يشكّل الفصل الأوّل مقدّمة لفهم الكتاب عبر التطرّق إلى النهضة الأوروبية التي هي في أساس النهضة العربية. والنهضة الأوروبية ليست حصيلة زمن معيّن أو إرادة حاكم أو فيلسوف، بل حالة تطورّت وتكونت على مرّ عدّة قرون وسياقات، وشملت مختلف جوانب المجتمعات الغربية. وقد لزم تلك النهضة قرون عدّة لكي تنقطع عن نظام الحياة القديم، وتهيّئ الطريق للعالم الغربي الحديث بدولته العصرية، وحقوق الإنسان، والإصلاح الديني، والتقدّم التقني، والعلمانية بأوجهها المتعددّة، إلخ. بلغت النهضة الغربية العالم العربي في 1798، عندما وطئ نابوليون أرض مصر حاملاً معه إرثه النهضوي الأوروبي بنموذجه الفرنسي. وبعد توضيح تلك المنطلقات، يتناول الكاتب مسألة النهضة العربية وظروف نشأتها وتطوّرها وإخفاقها، وأحد أهم أسبابه «يعود إلى أنّ معظم النهضويين حاولوا تقليد النهضة الأوروبية … ولم يقوموا بالعمل الدؤوب لتحقيق التفاعل بين مفاهيم النهضة الحقيقية والجذرية وبين ما يجري في العالم العربي». ومن أهم مقومات نضال هؤلاء النهضويين تحقيق الإصلاح الديني الإسلامي، واحترام العقلانية، وإرساء مفاهيم الدولة العصرية، والعلمانية (بالنسبة إلى البعض منهم)، والحرية، والديموقراطية، ورفض الاستبداد. وقد ساهمت عوامل عدّة في نشوء هذه النهضة، ومن أهمّها، تأسيس المدارس الأجنبية وتوسعها، وانتشار المطابع في بلدان عربية مختلفة بعد منعها من قبل العثمانيين لفترة ثلاثة قرون، وظهور الصحافة العربية، والاهتمام باللغة العربية، وتأسيس الجمعيّات التي ستتحوّل لاحقاً إلى أحزاب سياسية، وتزايد عدد الطلاب الذين يسافرون إلى أوروبا طلباً للعلم والذين يتأثرون بمكتسباتها الحديثة، والتحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التي حولّت وجه المجتمع. ومن أهم ما استنبطه النهضويّون العرب من النهضة الأوروبية: «الاعتراف بأهمية العقل والعلم في تطور المجتمع، ونشر التعليم، ورفض العادات القديمة البالية، ومحاربة الاستبداد والتخلّف والخرافات، وقبول مبدأ نقد التراث، واستيعاب المفاهيم المعاصرة والوطن والوطنية والأمة والدولة الحديثة، والدعوة إلى حرية الفكر والاعتقاد والمساواة بين المواطنين جميعاً من مختلف القوميات والأديان، والاعتراف بحقوق المرأة، وفصل السلطات». لكن هذه الأفكار جوبهت أقلّه من قبل فريقين، ما حدّ من تطورها وتطبيقها: رجال الدين ودعاة العداء لأوروبا الاستعمارية وأفكارها.

 يطلعنا الكاتب من خلال عرضه أفكار النهضويين العرب على التيارات الثلاثة الأساسية التي كانت فاعلة من خلال النهضة العربية، وهي ليست بالضرورة تيارات تتكامل وتتبنى الاتجاهات نفسها، بل هي متعارضة في الكثير من الأحيان، بالأخص عندما يتعلّق الأمر بالمقدّس وبعلاقته بالسياسة وبالمجتمع. فالتيار الأوّل هو التيار النهضوي الإسلامي، الذي أراد النهضة تحت مظلّة النص القرآني والشريعة الإسلامية، ومن أهم من يمثله: رفاعة الطهطاوي، خير الدين التونسي، أحمد فارس الشدياق، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، قاسم أمين وعلي عبد الرزاق. والتيار الثاني هو التيار النهضوي الليبرالي وهو يلتصق إلى حد كبير بالحراك الفكري والفلسفي، ومن أهم ممثليه: فرنسيس مراش، شبلي الشميل وفرح أنطون. والتيار الثالث هو التيار النهضوي القومي، وقد اهتم مناصروه بالقضايا السياسية بالدرجة الأولى، ومن أهم ممثليه: أديب اسحق، بطرس البستاني، ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم ونجيب عازوري. شكّلت هذه النهضة، بأوجهها المختلفة «شرارة الانتقال من عصر الجمود العربي والتخلّف والظلامية إلى مرحلة التنوير والنهوض والإصلاح وامتلاك ناصية التطور، وتحويل المجتمع العربي من الحال التي هو فيها إلى حال أخرى أكثر تطوّراً اقتصادياً وسياسياً وفكرياً وفلسفياً ودينياً». لكن تطبيق هذه الأفكار فشل ولم يتغيّر شيء جذريّ في قلب المجتمعات العربية خلال قرنين، لأنّ بورجوازية محلية قادرة على حمل قضايا النهضة لم تنشأ، ولم ينشأ أي تيار اجتماعي أو حزبي ينادي بهذه الأفكار. وقد وقف «النهضويون الإسلاميون سداً أمام أفكار النهضة بدلاً من أن يحملوا مشعلها حتى النهاية، ولم يروها كما رآها المفكرون والفلاسفة الأوروبيون وبعض المثقفين العرب، وسعوا إلى أسلمتها».

 الحداثة مفهوم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنهضة، وهو من أحد مكوناتها. الحداثة كما يحدّدها الكاتب هي «منظومة من المفاهيم والعناصر والعلاقات التي تكوّن في مجموعها المجتمع المتطوّر، وتساهم في بناء الدول والمجتمعات والنشاطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية». وهي انتصار للعقل في كل الميادين، إذ يصبح العقل هو المرجع، لا النص الديني أو أيّة تقاليد موروثة أو ماورائية. «وتؤكّد أفكارها ونظريتها على تبني العقلانية ونقد التراث، وتطالب بالإصلاح الديني، وتعتمد الفردية والفردانية بحيث لا يحق لأحد الهيمنة على الفرد، وتطالب بتحرير عقله، وأن يوكل إليه تدبير شؤونه وهيمنته على الطبيعة».

 لم يمنع هذا الوصف المثالي للحداثة من نقضها، وقد قام بذلك الأوروبيون أنفسهم في القرن العشرين، ولكن على الرغم من ذلك، بقيت الحداثة حاوية للكثير من مقوّمات النهضة، وهي ضروريّة على الرغم من الحذر الذي يجب التمنطق به عند الاستناد إلى معطياتها. ويعتبر الكاتب أنّ الحداثة لم تستوطن بعد العالم العربي، إذ كان تأثيرها جانبياً فقط. فالظروف «الموضوعية والشروط التاريخية والإنسانية المفضية إلى الحداثة لم تتوافر في البلدان العربية». ومن أهم هذه الظروف عدم حسم العرب موقفهم من المقدس بحيث أعطوا العقل دوراً لا يتخطّى الهامش الذي يسمح به الدين، وعدم تحقيق أي إصلاح ديني، فضلاً عن الاستغلال والاستثمار السياسي للدين ومقدساته.

لا شك أنّ هذه الإشكاليّات هي في محور المخاض الثوري الآني. ولكن هل نضج عالمنا العربي، بمشرقه ومغربه لبلوغ ملء قامته النهضوية والحديثة؟ لا ريب أنّ مطالب كثيرة تتلاقى مع المطالب التي ما برح ينادي بها أهل النهضة والحداثة، ومنها الديموقراطية، والتحرر من الاستبداد السياسي، والتخلّص من اللاعدالة الاجتماعية والفقر، والإنماء والإعمار، إلخ. لكنّ العائق الأساسي الذي وقف سدّاً منيعاً منذ قرنين في وجه النهضة والحداثة في العالم العربي لا يزال موجوداً، وتضاعف تأثيره وسلطته على الشعوب العربية، أعني بذلك التيّارات الأصولية والسلفية الإسلامية التي كان وهجها قد اضمحل في منتصف القرن العشرين مع تصاعد القوميات العربية العلمانية النزعة. فهل بالإمكان رجاء نهضة عربية وحداثة عربية، وهما مطلبان إنسانويّان ملحّان، في ظل هيمنة المقدّس المتصاعدة في السياقات العربية المختلفة؟

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 11.01.2012

De l’étang de l’Orient… à l’Orient nouveau, Al-Akhbar, 21.12.2012

من مستنقع الشرق… إلى الشرق الجديد

22 adonis

صدور «الآخر» لصاحبيها أدونيس (الصورة) وحارث يوسف، في زمن الثورات العربية ليس مصادفة. هي تصبو إلى الإسهام، على طريقتها، في تقدّم الحراك العربي من أجل إنسانيّة أفضل وعلى طريق التحرر من القيود التي تأسر الإنسان العربي وتحوّل حياته «إلى عالم رهيب من المصحات والمستشفيات السياسية ـــ الاجتماعية». هذه الفصلية التي تقدّم نفسها كمجلّة للذات والآخر، تريد أن تكون مساحة انفتاح بامتياز. تعالج «الآخر» مواد من مجالات متنوّعة. تضع في متناول قارئها مواضيعَ تتعلّق بالفلسفة، والأدب، والشعر، والفن، والموسيقى، وعلوم النفس والسياسة والإنسان. كذلك تنشر مقابلات مع أشخاص لهم عطاءاتهم في عالم الفكر، وتغني بعض مقالاتها بمادة بصريّة لافتة. حجمها المكتنز، وقياسها الكبير، وخطها العريض، وتصميمها السلس، كلّها تفاصيل تجعل قراءتها أمراً ممتعاً.

 في العدد الأوّل، لفت انتباه القرّاء ملف مخصص لأحوال الفلسفة العربية المعاصرة، تناول مسائل خطيرة كعجز العرب عن تقديم فيلسوف منظّر على مستوى العالم. وهذا التحري الفلسفي، يأخذ كامل معناه في ضوء الثورات العربية التي ينكبّ عليها العدد الثاني، من وجهة نظر الشباب السوري. هذه الثورات ولدت من رحم تألّم الشعوب العربية الرازحة تحت نير الفقر، والبطالة، والدكتاتوريات، وغياب العدالة. هذه الشعوب التي أرادت التحرّر ممّا يكبل ذاتيّاتها، هي نفسها شعوب تنحو بغالبيتها منحى الحكم الديني والمنطق الديني، ضاربة عُرض الحائط بكل منطق مدني أو علماني يمكن أن يولد مساحات فكرية يمكنها التأسيس لتحرير الذات، أقلّه كما تنظر إليه الفلسفة. لا ريب في أنّ السؤال الفلسفي لا يتعارض مع السؤال الديني. وقد أثبتت ذلك مدارس فلسفية مسيحية وإسلامية ترى التأويل علماً ضرورياً لكل فهم مناسب للنص. لكن السبل الدينية الآنية في العالم العربي، بتأويلاتها العقائدية الإطلاقية، وإصرارها على الترجمة السياسية لهذه الإطلاقية، ستبقى حاجزاً منيعاً ضد كل أرضية تسمح بتحرير الفرد وبلوغه حدّاً أدنى من الوعي الذاتي. هذا الوعي تعدّه الفلسفة مؤسساً لإنسان جديد، متحرر من هيمنة التديّن المُغرِّب والتبعيّة لغرب لم ينته من ابتداع طرق جديدة لاستعمار أرض العرب. تجربة «الآخر» تندرج في هذا السياق، إذ تشرّع صفحاتها على الأفقين المعرفي والنقدي، وترفع لواء الجرأة والفكر الكفيلين في إيقاظ الفرد العربي من سباته الثقافي العميق.

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 21.12.2011

Chafik Jradi : pas d’être humain sans question, Al-Akhbar, 06.12.2011

الشيخ شفيق جرادي: لا إنسان من دون سؤال

20 chafik Jradi

مع افتتاح معهد المعارف الحكمية في ضاحية بيروت الجنوبية، أعاد الشيخ شفيق جرادي الحياة لاختصاصات علمية فلسفية إسلامية. جرادي الذي يرى أنّ الإنسان اضاع الفلسفة الحقيقية للأديان عندما استغرق في اللاهوت ونسي الناسوت، يقول إنّ المنبع الأساسي للفلسفة هو السؤال الإنساني

■ قلّما ألفنا وجود معاهد فلسفة إسلامية في لبنان والعالم العربي. وها هو «معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية» يقوم بنشاط علمي فلسفي رصين. ماذا عنه؟

افتتح المعهد في 1999، وكان المقصود في بداية تأسيسه تعليم الفلسفة الإسلامية من خلال تحصيل دراسي يدوم أربع سنوات ندرّس خلالها مواد عدة، كالمنطق والفلسفة الإسلامية والعرفان، أي التصوف من منطلق فلسفي. وقد اهتممنا بنحو خاص بمدرسة فلسفية يطلق عليها اسم «الحكمة المتعالية» للفيلسوف صدر الدين شيراز (إيران، 1571 ــ1640). تطوّرت الفكرة في ما بعد إذ قام المعهد بإصدار مجلّة «المحجّة» المتخصصة بالفكر الديني المعاصر وفلسفة الدين والفلسفة الإسلامية بفكرها الأخير الذي تمثّله مدرسة «الحكمة المتعالية»، ومسألة الحوار الإسلامي ــ المسيحي. ونحن نرصد كل جديد في الفكر الديني المعاصر، في الشرق والغرب. وبعد انطلاق المجلّة التي هي منبرنا، شرعنا بنشر الكتب وأنشأنا دارنا الخاصة التي أصدرت إلى الآن ما يقارب الثمانين إصداراً. كذلك أنشأنا «المنتدى الفلسفي» الذي نستضيف به دورياً شخصيّات معيّنة لها طرحها الفكري أو بحثها الخاص.

■ لكن أليست العلاقة بين الفلسفة والدين الإسلامي إشكالية منذ عدّة قرون؟

لدي إيمان شخصي بأنّ كلّ دين من الأديان يحمل سعة واسعة جدّاً من التأويل، وذلك ما سمح بإنتاج الكثير من المذاهب والاتجاهات الخاصة، ومنها من أنتجت تطرّفاً، أو عزلة، أو انكفاء أو حتى ديناً شعبياً. ولكن هناك أيضاً مساحات من التأويل الديني تنتج السؤال، وأقول ذلك اعتقاداً منّي أنّه لا دين خارجاً عن نطاق العلاقة مع الإنسان. فلا شكّ أنّ الله هو، في إيماني على الأقل، حقيقة موجودة، بغض النظر عن الإنسان، لكن ذلك لا يعني أنّه يوجد دين من دون الإنسان. بناءً عليه، إن لم يكن الخطاب الديني موجّهاً إلى الإنسان، يصبح خطاباً عبثيّاً. صحيح أنّ هناك نظرة موجودة عن الأديان قوامها أنّها بعيدة عن العقل الناقد وأنّها تمارس الترويج للفكرة أكثر من ممارسة السؤال النقدي، وتلك الصورة تكثّف بنحو كبير في الفترة الأخيرة عند الحديث عن الإسلام، وسبب ذلك أنّ التفكير السائد بين المسلمين يذهب باتجاه مدارس منعت السؤال النقدي بفعل ممارستين: ممارسة داخليّة عند بعض المسلمين الذين لجأوا إلى ترهيب الآخر في الموقف من خلال جمود ذهني، وممارسة الغرب، الذي جعل من هذه الصورة النمطية حقيقة مطلقة، فأصبح المسلم، في المشهد الهوليوودي، يساوي زمناً معيّناً، وهو العربي الخليجي الذي يضع العقال، ولديه تفكير يشبه الصحراء.

■ كيف تواجهون إذاً تلك المعضلة، وكيف تفهمون الفلسفة؟

هل يوجد شيء اسمه فلسفة كحقيقة مطلقة ومستقلّة؟ بتقديري كانت هناك محاولات لم تنجح لتحويل الفلسفة إلى علم، وبقية الفلسفة تحتضن طبيعتها الخاصة التي تنبع من الدهشة، إذا صح ما ينسب إلى أرسطو، والدهشة تعني ملاقاة ذاتي مع المحيط، ومع الآخر، أكان إنساناً، أم السماوات وما فيها، أم أنا بذاتي. هذه الدهشة التي تعبّر عن حقيقتك، تلفت نظرك إلى الأمور المحيطة وتثير بك السؤال. ولذلك، فإنّ الأصل في الإنسان هو طرح السؤال قبل التكلّم عن الإجابات. وكل إجابة قد تسمى فلسفة، أو ديناً، أو فكراً. لكن المنبع الأساسي هو السؤال الإنساني. بناءً عليه، إن كان الدين ينتسب إلى ذلك الإنسان، فالفلسفة تنتسب إلى هذه الدهشة الخلاقة الموجودة عند الإنسان، أو القلق الخلاق، والذي لا بدّ من أن يولد السؤال. لا إنسان من دون سؤال، ولا دين من دون سؤال، ولا فلسفة من دون سؤال. وسر الاختلاف بين الفلسفة والدين هو الاختلاف في الجواب، لا الاختلاف في المنشأ. نحن نعتقد أنّ علينا أن نوحّد الحقيقة الإنسانية التي توحّد السؤال. وينبغي أن يكون السؤال دائماً مفتوحاً ودائماً مهاجراً، يتنقل بين الفلسفة ونقدياتها، وبين الشعوب والأمم، وبين الأفكار والاتجاهات والأديان، وأستغفر الله على هذا الكلام، بين الآلهة التي نعتقد فيها في كافة الأديان. هذا السؤال يتنقل دوماً برغبة جانحة نحو شيء لا يستطيع أحد أن يقبض عليه وهو الحقيقة، تلك التي ترغبها من دون أن يكون بوسعك أن تقبض عليها. وأخيراً، إنّ أجمل شيء في السؤال الفلسفي هو اللحظة التي يرف فيها بالغيب وجع الإنسان. نحن أضعنا الفلسفة الحقيقية للأديان عندما استغرقنا في اللاهوت ونسينا الناسوت الذي له علاقة بالوجع وبالألم وبالموت وبالحياة وبالاختبار وبتقارب الناس وبالسلم وبالحرب. وهنا الفلسفة الحقيقية. فكل شيء متعلّق بالله له علاقة بالإنسان. الرحمن مثلاً أو الرحيم، هو متعلّق بالإنسان. رابطه هو الناسوت. لا شيء خارج هذا الناسوت، وأنا لا أعرف أن أصلي من دون الفلسفة، من دون أن أفهم.

■ كيف تشخّص إذاً مشكلة الفلسفة الإسلامية الحالية بمخاطبتها مع العالم المعاصر؟

نحن المسلمين ندفع ضريبة بالحقيقة، لكون اللغة التي نستخدمها بتحليلنا الفكري وبقراءتنا الفلسفية لغة هي بالغالب خارج الإطار المعاصر. لا يمكنني أن أكلّمك اليوم بلغة القرن الرابع الهجري مثلاً، لأنّك لن تفهم لغتي. لكن هل يقبل الدين بالمعاصرة؟ عند المسلمين قاعدة اسمها «قاعدة الجري»، والمقصود فيها أنّ النص الديني ينبغي أن يجري مجرى الزمن. الثمن الذي ندفعه أننّا لم نعمل على لغة التفكير فضلاً عن لغة المحادثة، واللغة عامل أساسي لفهم الوجود ولمخاطبة الآخرين. فعندما أصبح منتمياً إلى لغة أخرى، كما هي الحال الآن مع الغرب، يحصل عدم فهم بيننا. أنا أدّعي أنّ المعهد يسعى لتقديم محاولات كهذه، وأنا على صعيد شخصي معني بهذا الموضوع، لأنّه ممنوع علينا أن نكون مجرّد مستهلكين في الشرق، بحيث نستجلب السؤال من أفق معرفي غربي. من حقي أن يكون لدي سؤالي الخاص بي النابع من انتمائي وهويتي وبيئتي. هكذا نحاول أن نوجّه الأمور ولا نزال.

■ وما دور هذا النوع من الفلسفة في عالمنا العربي المعاصر؟

قدرة العالم العربي على الاستهلاك تدهشني. مثلاً في أغلب ما كتب في العالم العربي، نحن دائماً معنيون بمنهجيات أخرى. لا أقول ذلك انطلاقاً من عداوة للغرب وأنا لا أكنّ له أي عداوة. أنا جزء منه وهو جزء مني ولا يمكننا أن ننفصل. فنحن نعيش الآن بوحدة إنسانية. أنا أرى أنّ كل ما أنتج تقريباً في الشرق على مستوى الفلسفة هو دون أي أطروحة دينية، سواء كانت مسيحية أو إسلامية، لأنّ هذه الأطروحات فيها إضافات اليوم. لكن في الإطار الفلسفي ما الذي يقدّم؟ لا يوجد إلا ترجمات لفلان بلغة ينسبها لنفسه، أو يترجم أقوالاً مشوهة. تنتهي الموضة في بلاد الغرب ونحن نكمل بها. نشاطنا في هذا المعهد يبغي الخروج من هذا المأزق مع أنّني لا أعرف إلى أي مدى قد نجحنا. ولكنني أراهن على رغبة الاستقلالية الموجودة الآن عند شعوب المنطقة، عسى إرادة الاستقلالية أن تنتج فكراً يرغب في الاستقلال. فالفكر المفصول عن حراكك اليومي ليس بفكر. فإن كنا اليوم في صحوة جديدة نفكر أن نحرر إرادتنا من قيود وارتباطات، من الممكن أن يعمل ذلك في لحظة من اللحظات بعقول قابليّاتها مبدعة لكن ظروفها لم تكن سانحة حتى تبدع. فهناك استفاقة في العالم العربي، وأنا لا أراهن فقط على نزول الناس إلى الشوارع، بل أيضاً على أن يوّلد شارع الشباب والفقراء نموذجاً جديداً. مثلاً، فلنتكلّم عن الحالة المصرية: ليست الحركات الإسلامية من عملت هذه الانتفاضة، ولا جهات مسيحية أو علمانية. من صنع هذه الاستفاقة هم شباب، أي الضمير الحي والطموح. والآن يتناقشون بكل شيء إلا مع الشباب. لكن أين هي إرادتهم وموقعهم في الحكم وشكله ونظامه. حقهم على الأقل أن يأخذ هذا الشكل من الحكم نظراتهم وتطلعاتهم وتضحياتهم، والخوف هو أن تصبح الإرادة التي يجسدها الشباب في ميل ومن يدعي الحكمة في ميل آخر.

■ ماذا عن الطائفية والعلمانية في لبنان؟

المفردة الوحيدة التي أعرف معناها في لبنان هي الطائفية. لكنّني لا افهم ما المقصود بالعلمانية، وهنالك لغط. فكلمة علماني في الأوساط المسيحية غير فهمها في الأوساط الإسلامية. ففي الأوساط الإسلامية تمثّل العلمانية عقدة تاريخية لدخول الغرب إلى بلاد العالم الإسلامي ومحاولة لإقصاء الدين. فالمشكلة ليست في المصطلح بل في عقدة موروثة تاريخياً. أمّا العلمانية في الفهم المسيحي فهي حكم مدني لا يشارك فيه الإكليروس. أعتقد أنّ العلمانية هي اتجاه في ممارسة الشأن الحياتي، قد يكون متطرفاً وقد يحمل الكثير من الإيجابية والاعتدال. أنا لست معها أو ضدها لكنّني أريد أن تحدد الأمور بشكل واضح وهذا ليس ببديهي. خرجت مثلاً في الآونة الأخيرة مسيرة تطالب بالعلمانية. ومن بعدها، بدأت الهتافات ضد الطائفيين. ماذا يقصدون بذلك؟ الجماعات؟ وإلى مَ يؤدّي ذلك؟ إلى تكوين طائفة جديدة ومحدّدة وموجودة في الزاوية، وهذا ما حصل. فأوضح شيء في لبنان هو الطائفية، وفي الوقت الذي تظن فيه أنّك تحاصر بقية الطوائف، فأنت لا تحاصر إلا نفسك. قدر هذه الطوائف أن تبقى منفتحة على بعضها، وأن نتحمّل جوانب الطائفية السيئة. لكن تبقى مشكلة العلمانية أنّها غير محدّدة في لبنان، وحتى تعريف الدين غير محدد. فالأمر الوحيد المحدد هو الطائفية.

تعريف

ولد الشيخ جرادي في بيروت في 1962، واهتم بالفلسفة في عمر مبكر، فبدأ يخوض النقاشات الفكرية في الثالثة عشرة مع اليساريين والقوميين، ممن يكبرونه سناً وثقافة. سافر إلى حوزة قم في إيران حيث تابع دراساته الدينية لفترة سبع سنوات طبعت وجدانه بشكل فريد. فلسفياً، أعجب بفلسفتي ماركس وهيغل، وإسلامياً، تعلّق بشخص الخميني. وهو لا يخفي إعجابه برسالة الأم تيريزا. التزم العمل المقاوم ضد العدو الإسرائيلي منذ بداية الثمانينيات. أسس في 1999 «معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية» (حارة حريك) الذي يلعب دوراً ليس فقط على صعيد الفلسفة الإسلامية المعاصرة، بل أيضاً على صعيد الحوار الإسلامي المسيحي. له إصدارات عديدة، أهمها: «مقاربات منهجية في فلسفة الدين» (2004)، و«إلهيات المعرفة، القيم المتبادلة في معارف الإسلام والمسيحية» (2006).

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 06.12.2011

Mouchir Basil Aoun : les Arabes entre la pensée et la politique, Al-Akhbar, 22.11.2011

مشير باسيل عون: العرب بين الفكر والسياسة

 H

أساس فكر عون القولُ بأصالة التعدّد الكونيّ. أمّا النهج التاريخيّ الاجتماعيّ الذي يعتمده تطبيقاً لمبدأ التعدّديّة، فهو الانتصار لعَلمانيّة هنيّة تُتيح للأفراد وللمجموعات أن تتعايش معايشة خلّاقة تصون الاختلافات في نطاق الانتماء إلى المدينة الإنسانيّة الواحدة

■ ما هي الفلسفة؟

الفلسفة بحثٌ دائمٌ عن المعنى الأشمل للوجود الكونيّ والإنسانيّ، بحسب مقتضيات التفكّر العقليّ المستقلّ وفي استنهاض شامل لطاقات الوعي الإنسانيّ كلّها. وهي السؤال الأصعب الذي يصيب عمق الكيان الإنسانيّ ويستتلي من تلقاء نفسه التجدّد والانسلاك في السياق التاريخيّ المتغيّر. الفلسفة تدنو من الحياة لتستنطقها عن رسائلها التي تستكتبها الناسَ في كلّ زمن من الأزمنة. ولا تني الفلسفة تعارك الحياة وتعاركها الحياة. ولذلك كان من ألزم شروط الفلسفة التبصّر في نداءات الوجود المنبثقة من صلب المعاناة الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة. ولذلك أيضاً كانت الفلسفة، على وجه المفارقة، أرقى العلوم وأعسر الصناعات اليوميّة التي يندر أن يمتهنها الإنسان في زمن العولمة. ومن مغريات الفلسفة المربكة أنّها العلم الوحيد الذي يحرّر الإنسان تحرير التحلّل والبناء. فالفلسفة تَستحلّ الإنسانَ فتُعتقه من الموروثات المجافية للواقع المستجدّ. والفلسفة تبني الإنسان فتُنشئ له بنياناً كيانيّاً جديداً يراعي مقتضيات الانسلاك في معترك الحياة.

■ هل للفلسفة من وظيفة في العالم العربيّ؟

قد يُحمَل السؤال على وجهين. الوجه الأوّل يقتضي النظر في واقع الوظيفة التي تضطلع بها الفلسفة في العالم العربيّ. أمّا الوجه الثاني، فيتطلّب النظر في طبيعة الوظيفة التي ينبغي للفلسفة أن تضطلع بها في العالم العربيّ. غير أنّ الحديث عن علاقة الفلسفة بالعالم العربيّ لا يستقيم إلّا بمعاينة واقع العالم العربيّ. العالم العربيّ متأخّرٌ متوعّكٌ تقنيّاً، متألّمٌ مكبوتٌ وجوديّاً، متعثّرٌ متشنّجٌ عقليّاً، مضطربٌ محمومٌ دينيّاً، متذبذبٌ ملتبسٌ روحياً. هذه هي السمات السلبيّة التي أعاينها مرتسمةً على محيّا هذا العالم الذي تُحزنني إطلالتُه على آفاق القرن الحادي والعشرين. والحال أنّ الوضعيّة الثقافيّة التي تتخبّط فيها مجتمعات العالم العربيّ ما انفكّت أسيرة الأنظومة الفكريّة التي كانت سائدة في القرون الوسطى. وهي أنظومةٌ بَطلت ملاءمتُها المعرفيّة لأوضاع الاختبارات الإنسانيّة الناشطة في الزمن الحاضر، لأنّ أصولها ومنطقها ومبادئها ومفاهيمها ومقولاتها ومناهجها شاخت وكفّت عن أن تعبّر عن المستجدّات الطارئة على الوعي الإنسانيّ. وفي يقيني أنّ باب الاجتهاد العقليّ قد أغلق حين آثر العرب مناصرة الغزالي والتخلّي عن ابن رشد. بيد أنّ الأزمة العقليّة الخطيرة التي تعصف بالعالم العربيّ توجب الاستفسار عن حقيقة تلك المستجدّات. فإذا أكره أهلُ السلطان الدينيّ والسياسيّ والمعرفيّ المجتمعاتِ العربيّة على القول إنّ اختبارات الإنسان العربيّ لا تتبدّل بتبدّل الأهواء والتيّارات، كانت الأنظومة الفكريّة الوسيطيّة الشائخة هي الأنسب للوعي العربيّ. وهنا يواجه الفكر العربيّ السؤال الفلسفيّ الأخطر: هل تغيّرَ الإنسانُ العربيّ تغيّراً كيانيّاً وجوديّاً يبرّر تغيير الأنظومة الفكريّة؟

■ ما الذي يمكن أن تقدّمه الفلسفة للعالم العربيّ؟

لا شكّ في أنّ هذا السؤال يصيب الوجه الثاني من التحليل، إذ يتناول الفكرُ طبيعةَ الوظيفة التي ينبغي أن تضطلع بها الفلسفة في العالم العربيّ. والحقيقة أنّ واقع الفلسفة في العالم العربيّ لا يشجّعني على التفاؤل، لكنّ الفلسفة تَفكّرٌ لا يملك الواقعُ أن يقبض عليه. ولذلك لا بدّ من النظر إلى الرجاء الفلسفيّ الذي يعقده الفلاسفة العرب، وهم ندرةٌ نادرةٌ، على تحوّل الذات العربيّة وانسلاكها في مسرى التحرّر. فإذا كان للفلسفة اليوم من رسالة استنهاض تلائم واقع العالم العربيّ، فهي رسالة تحرير الذات العربيّة من ذاتها. وهذه، لعمري، من أعسر المهمّات المعرفيّة والوجوديّة. فالفلسفة تنفرد وحدها من بين جميع العلوم في القدرة على تفكيك التراكمات المعرفيّة التي احتشدت في الوعي العربيّ، وأغلقت عليه منافذ مصاحبة العصر. وربّ معترض يعترض على طبيعة هذه الرسالة مبرّراً تحفّظَه بغربة الذات العربيّة الثقافيّة عن المسعى الفلسفيّ. فالفلسفة ليست من صميم الكينونة العربيّة، على حدّ ما يدّعي بعضُهم. لكنّ هذا القول مردودٌ لأنْ ما من صميميّة كينونيّة قائمة في ذاتها بمعزل عن عوامل التأثّر التاريخيّ. فإذا صحّ هذا القول، صحّ قولٌ آخر يرى أنّ الإسلام ليس من صميم الكينونة العربيّة، إذ إنّ العروبة قامت قبل الإسلام. وصحّ قولٌ آخر أيضاً يرى أنّ المسيحيّة ليست من صميم الكينونة العربيّة. وفي ظنّي أنّ مثل هذا المنطق عقيمٌ يجافي أصول الانخراط في المسرى التاريخيّ للوجود البشريّ، وهو مسرى التأثّر والتأثير، والتفاعل والتقابس، والتبدّل والتطوّر. وحدها الفلسفة، على ما تختزنه من طاقات التحرير للذات العربيّة، قادرةٌ على استنهاض العالم العربيّ والتوثّب به نحو آفاق التجديد والإبداع. بيد أنّ ذلك يقتضي جرأةً نادرةً في الإنسان العربيّ حتّى يخلع عنه لباس الاستعباد. فالإنسان العربيّ عبدٌ لغيره. والغيريّة التي تستعبده جعلته يستعذبها لشدّة ما ألمّ به من نوائب الدهر. ولكأنّي به يخال نفسه اليوم في أبهى صيَغ الوجود، في حين أنّه يعاني الأمرَّين. ومن أدهى المصائب التي تنتابه أنّ الفكر الدينيّ العربيّ والفكر السياسيّ العربيّ تواطآ عليه، فأوهماه أنّ اكتمال كيانه وسعادة وجوده تضمنهما له مقولاتُ الانصياع لهما، أي للأنظومة الثقافيّة والاجتماعيّة التي سار عليها المجتمع العربيّ منذ أقدم العصور. أمّا الفلسفة، بما هي نقدٌ بنّاءٌ لمسلك الإنسان في التاريخ، فإنّها تمنحه الفرصة والقدرة على النظر إلى ذاته وإلى الآخرين نظرةً جديدةً. وهذا ما يحتاج إليه العالم العربيّ في الزمن الحاضر.

■ ما المبادئ الفلسفيّة الأساسيّة التي تعتمدها في تصوّرك الفكريّ للوجود؟

لا أخفيك أنّي، بالرغم من فتوّتي الفكريّة، أحسّ إحساساً شديداً بنسبيّة الأشياء والكلمات في كلّ ما يكتنف العالم والكون من توتّرات وتنازعات وجدليّات. وفي ظنّي أنّ الوجود لا طاقة للإنسان على الإطباق عليه. فالوجود في ذاته أمرٌ، ووعي الوجود في التاريخ أمرٌ آخر. ولا سبيل للإنسان إلى الانعتاق من الوعي التاريخيّ. ويعنيني في هذا المقام أن أميّز أموراً ثلاثة: الأشياء في جوهر كينونتها، والاختبارات الإنسانيّة المتنوّعة لتجلّي الأشياء في معترك الحياة، والكلمات التي يستخدمها الناس لوصف تلك الاختبارات. ويقيني في ذلك كلّه أنّ هناك فاصلاً عظيماً بين هذه الدوائر الثلاث. فالأشياء هي غير الاختبارات، والأشياء والاختبارات هي غير الكلمات. والحال أنّ الناس يظنّون بخطاباتهم أنّهم يقبضون على الأشياء من خلال اختباراتهم لها. وفي هذا عين الضلال. ولذلك أقترح في فلسفة الحوار التي أنادي بها أن يعتصم الناس بنسبيّة اختباراتهم للأشياء وبنسبيّة كلماتهم في وصف هذه الاختبارات، وأن يكفّوا خصوصاً عن الادّعاء الثقيل أنّ كلماتهم واختباراتهم هي الصورة الأمينة المثلى للأشياء. وحده هذا التمييز يدفع بالناس، مهما تنوّعت أديانهم ومذاهبهم، إلى التقابل والتعارف والتصافي والتعاون والتقابس. وهذه هي الأفعال الإنسانيّة الخمسة الراقية التي تليق بحضارة البشريّة في مطالع الألف الثالث. وعماد هذه الفلسفة الحواريّة أنّ الوجود في صلب كينونته متنوّعُ الظهور، وأنّ الحقيقة في صميم حركتها التاريخيّة متشعّبةُ التجلّيات، وأنّ الانتماء الإنسانيّ في عمق معناه علائقيٌّ يستضيف الغيريّة استضافة التبادل الحرّ. فالقول بالنسبيّة لا يعني الإعراض عن الإيمان الذاتيّ والاعتقاد الذاتيّ والانتماء الذاتيّ، بل يعني الاعتراف بانتساب كلّ انتماء ثقافيّ أو دينيّ أو اجتماعيّ إلى ميدان الوجود المتنوّع الظهور وتجلّيات الحقيقة المتشعّبة المسالك. وبالاستناد إلى هذا الأساس الفلسفيّ تسنّى لي أن أصوغ نظريّة فلسفيّة خاصّة في حوار الأديان تقتضي التمييز بين ثلاث دوائر في الانتماء الدينيّ على تنوّع تسمياته. فهناك دائرةٌ أولى مشتركة بين جميع الناس، وهي دائرة الاعتراف بحقوق الإنسان التي نجحت الشرعة العالميّة في استخراج خلاصتها الجوهريّة في إثر قرون من المعاناة الإنسانيّة. وما من سبيل إلى تسالم الحضارات والمجتمعات إلّا بالتوافق على أحقّيّة تلك الشرعة. وهناك دائرةٌ ثانية مشتركةٌ بين أهل الأديان، هي دائرة الولاء للقيَم الروحيّة الخاصّة بالاختبار الدينيّ، ومنها على سبيل المثال، قيَم المحبّة والرحمة والغفران والتضحية والإخلاء الذاتيّ، وهي قيَمٌ لا تملك شرعةُ حقوق الإنسان العالميّة أن تنادي بها. لكنّها قيَمٌ لا تناقض الشرعة العالميّة، بل ترتقي بالإنسانيّة إلى مستوى الروحيّة الأخلاقيّة الرفيعة. وهناك أخيراً دائرةٌ ثالثةٌ تختصّ بها كلُّ ديانة على حدة، عنيتُ بها دائرة التذوّقات اللاهوتيّة الماورائيّة الغيبيّة الصوفيّة التي تنفرد بها كلُّ أنظومة دينيّة وتراها في أساس العمارة الدينيّة. ودعوتي للأديان أن تعتصم بهذه التذوّقات اللاهوتيّة من غير أن تُنزلها منزلة المطلق المهيمن على آفاق الوعي الإنسانيّ، ومن غير أن تفرضها على الآخرين، ومن غير أن تعزلها عن سياقات نشوئها الثقافيّ والتاريخيّ. فإذا اعتمدت الحضارات على وجه العموم، والأديان على وجه الخصوص، مثل هذا التمييز، تهيّأ للناس أن يهنأوا بحياتهم مرّتين، حين يُسرّون باختبارهم الإيمانيّ المنعش لكيانهم، وحين يفرحون بإقبالهم إلى الآخرين يستكشفونهم عن مكانز اختبارهم الإيمانيّ المختلف. والشرط الوحيد في ذلك كلّه إقرارُ الجميع بأحقّيّة الشرعة العالميّة لحقوق الإنسان، مع ما تستتليه من تأويلات تاريخيّة مصاحبة لتطوّر الوعي الإنسانيّ في سياق التعدّديّة الكونيّة المتفوّرة.

■ ما رأيك بالربيع العربيّ؟

كلّ ما سبق يُنبئك عن رأيي. اعتقادي أنّ العرب ما بلغوا حتّى الآن مرتبة الثورة الثقافيّة التي تليق بكرامة الإنسان في العالم العربيّ. ولن يبلغوا هذه المرتبة ما لم يبدّلوا تبديلاً جذريّاً في نسق التفكّر العقليّ الذي ما انفكّ معتمداً اليوم في خلفيّات مسلكهم الاجتماعيّ والدينيّ والسياسيّ. وما من حافز أشدّ من الفلسفة خليق بإعانتهم على الارتقاء إلى تلك المرتبة الإنسانيّة العليا. أمّا ما نعاينه اليوم، فهو خليطٌ من تململ وجوديّ ونفور اجتماعيّ وصحوات دينيّة متشنّجة وتضارب في الأهواء والمصالح.

تعريف

 مشير باسيل عون هو أستاذ الفلسفة الألمانيّة في الجامعة اللبنانيّة، وهو متحدّر من البقاع الشماليّ، وتحديداً من بلدة جديدة الفاكهة. نشأ وتلقى علومه في مدينة زحلة، ثمّ في حريصا (الآباء البولُسيّين). نال إجازتين في الفلسفة واللاهوت من معهد القدّيس بولس في حريصا، ودبلوم الدراسات العليا في الفلسفة من الجامعة اللبنانيّة. ثم انتقل إلى فرنسا وألمانيا لتحصيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة الألمانيّة. عون متنوّعٌ في استلهامه لمصادر فكره الفلسفيّ، مع ميل إلى الأنوار الأوروبّيّة مزدانة بتقويمات الفكر النقديّ المعاصر. مؤلّفاته تناهز العشرين كتاباً متنوعاً، في إشكاليّات الحوار بين الأديان والحضارات، ولاسيّما بين المسيحيّة والإسلام، وفي مسائل الفِسارة أو تأصيل التفسير الفلسفيّ، وفي قضايا تجديد الفكر العربيّ الدينيّ المسيحيّ المعاصر.

 أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 22.11.2011

Joseph Abou Rizk : l’homme perdu entre le corps et l’affectivité, Al-Akhbar, 21.12.2011

جوزف أبو رزق: الإنسان تائه بين الجسد والعاطفة

21 Joseph Abou Rizk

 يميّز جوزف أبو رزق بيت الإيمان والتعصب. فهذا الأخير ترافق صعوده مع انهيار الإيمان الديني الذي اضمحل مع حب الكسب المادي. اضمحلال أدى بمعظم اللبنانيّين إلى العيش بمعزل عن كل معتقد ديني وعن أية إيديولوجية وطنية قادرة على تأمين تماسكهم

 ■ كيف تفهم الفلسفة؟

الفلسفة هي محاولة لملء فراغ وجودي متأتّ من عزلة الفرد عن المحيط الإنساني، وتقنّعه على الآخرين بتوصية من وعيه. أنا أعتقد أنّ الإنسان مركّب حيّ، استطاع أن ينتشل نفسه من العدم للاستمرار في الوجود، عبر «الوعي» (conscience) ومن خلال شبكة العلاقات التي يبنيها مع الآخرين. وولادة الأديان مرتبطة بتلك العلاقات الإنسانيّة، لأنّ الديانة تتيح للكائنات البشرية أن تتلاقى في معتقد واحد، ما كان كافياً إلى حدّ ما، لإيقاظ شعور استقرار الكائنات البشريّة في الوجود. بمعنى آخر، كان على الوعي والدين أن يؤمّنا للإنسان الطمأنينة. لكنّ «الوعي» أو «العقل» الذي يضع ضوابط شخصيّة للإنسان، شوّه الدين عندما حوّله من مادّة شعوريّة حياتيّة تجمع البشر إلى مادّة اصطلاحيّة، طائفية أو قوميّة تفرّق.

 ■ إذاً، أصبحنا أمام واقعين يمكنهما التناقض؟

طبعاً. أنا عندي طبيعتين متناقضتين: الأولى هي الطبيعة الجسدية، وأسميها الحياة التي يجب أن تدخل في صراع مع باقي الأجساد الحية لكي تستمر. والثانية هي الطبيعة الإنسانية، أي انتماؤنا إلى العالم الإنساني، ذاك الذي يحصل عبر الشعور العاطفي. مصطلح «عَطَفَ» في العربية له معنى أقوى من الكلمة الفرنسية «sentiment»، وهو يفترض أن أقرّبك مني وأن أقترب منك، بمعنى أنّني أريدك أن توجد فيّ وأن أوجد فيك، لأشعر أنّني كائن. الانتماء إلى العالم الإنساني هو كلّ ما يميّز الإنسان، فيعزله عن العالم الخارجي كالطبيعة الحيوانية، ويلصقه بالآخرين. أمّا انعزال الفرد عن العالم الإنساني فهو ما يولد الفراغ الوجودي التي تحاول الفلسفة ملأه عبر تفكّراتها وسبلها الفكرية. حقيقة كلّ إنسان أنّه أمام طبيعتين، واحدة تعيده إلى حيوانيّته، وتأخذ أسمى شيء عنده وهو إنسانيته، والأخرى لا يمكنه أن يلغيها تماماً، فيملأها بالحيلة عبر خلق علاقات مع الآخرين.

 ■ هل يعني ذلك أنّ نهائيّة الفلسفة عاطفية، هدفها ربط الناس بعضهم ببعض لكي لا يقعوا في العدم؟

الفلسفة كغيرها من النشاطات الإنسانية تساعد المرء على ملء فراغه الوجودي عبر العلاقات التي تحدثها. فكل منا يبحث عن ملء هذا الفراغ بطريقة معيّنة، وخاصة عندما لا يملأ الواحد فراغ الآخر، فعندها تخلق الفردوس، والله، والملائكة، إلخ. وهذا الحل غرائزي لا مفر منه باعتقادي. حاول الفلاسفة ملء فراغ الإنسان الوجودي من خلال تفكراتهم، وذلك يحدث عندما يحصلون على عاطفة الآخرين الذين يقرأونهم ويسمعونهم ويناقشون أفكارهم. فبذلك يطمئن الفلاسفة إلى بقاء أسمائهم وذكرها في التاريخ بعد رحيلهم عن هذه الدنيا. ذلك كلّ ما يمكن للفلسفة أن تقدّمه للفيلسوف، وهي كما الشعر صرخة موجهة إلى الآخر لكي يأتي إلينا. فعندما أطلب منهم أن يكفوا عن التفكير بالأمور العادية، وأن يلتفتوا إلى المسائل الفلسفية المتعالية، أنا أدعوهم لأن يفكروا معي وبحكم ذلك أن يلتفتوا إليّ. هذا يجعلني أتصور أنّ الناس يقبلون إليّ وأنا إليهم، ما يسمح لي بملء فراغي الوجودي. برأيي هذه هي الفلسفة الوحيدة والحقيقة الوحيدة التي لا حقيقة خارجها، وهي تنطبق على كل الميادين. فالفنان، لماذا يغوص في الفن؟ والراقص، لماذا يرقص؟ كلّهم يصرفون طاقاتهم للحصول على عطف الآخرين وملء فراغهم الوجودي، حتى لو لم يدركوا ذلك.

 ■ انطلاقاً من كل ذلك، كيف يمكنني فهم الوجود؟

أفهم الوجود من خلال الفراغ، لأنّ التكلم عن فراغ يفترض أن أقول ما هو الوجود. الوجود هو العلاقة البشرية، وفهمها يمر بفهم الإنسان الذي لا يمكنني أن أقبل إليه إلا من الناحية الأخلاقية، أي من خلال التصرفات. فالوجود بالنهاية هو علاقة مع الآخر، وإن لم يدرك الإنسان نفسه كمحبوب، يشعر أنّه في العدم، أنّه لا شيء. أنظر إلى الأنظمة السياسية، فهم يقترحون مثلاً الديموقراطية أو الاشتراكية، ولكن في كلتا الحالتين لا يمكن لأحوال السياسة والمجتمع أن تستقيم إلا عندما يشعر كل مواطن بأنّه يعمل للكل وأنّ الكل يعمل له. وهذه العلاقات هي في أساس وجود الإنسان وملء فراغه. ولكن تبقى فيها مشكلة، إذ إنّ على المرء أحياناً كثيرة أن يضع قناعاً يخوّله عقد العلاقة الإنسانية، ما يجعلها بحالة غياب بسبب التقنع. ونتيجة لذلك بإمكان انتمائي إلى الآخرين أن يصبح هو أيضاً مصدر فراغ، لأنّني لم أعد ذاتي بل مقنعاً. وللوعي أو العقل دور أساسي في وضع هذا القناع. فهو المعرفة وهو الذي يعطيني الحلول حول تصرفاتي مع الآخرين وعلاقاتي معهم التي هي في أساس وجودي، ويدفعني بذلك إلى اتباع الآليات المختلفة لكسب عطف الناس عبر المظهر الخارجي والكلام اللطيف مثلاً. ولكن ذلك ليس بالضرورة نتيجة كلام أو نوايا صادقة. ما يعني أنّنا ندعي في هذه الحالة صدق علاقتنا مع الآخرين. أعتقد أنّ «الوعي» ذهب اليوم في اتجاه الجسد والتكنولوجيا والعلم لأنّه لم يقدر أن يؤمّن للبشر ملء الفراغ الذين يعيشون فيه. وبذلك أصبح الوجود هو الطريحة والوعي النقيضة.

 ■ عودة إلى ما قلته عن تحويل الدين من مادة شعورية إلى مادة اصطلاحية: هل يمكننا أن نتكلّم هنا عن تحوّل الإيمان الديني الذي كتبت عنه أنّه يتيح «للكائنات البشرية أن تتلاقى في معتقد واحد … ما كان كافياً إلى حدّ ما، لإيقاظ شعور استقرار الكائنات البشريّة في الوجود»، إذاً تحوّل هذا الإيمان إلى عصبيات طائفية كالتي نعرفها في لبنان؟

أنا أميّز بين الإيمان الديني والتعصّب الطائفي الذي هو أحد التجليات الأساسية للحالة النفسية غير المستقرّة التي يمرّ بها الإنسان اللبناني، وقد كان مكتوباً لهذا التعصب أن يفشل في تهدئة الشعور بعدم الاكتفاء الذي كان يقضّ مضجع المتطيّفين، ويعقّد بالتالي مهمة الدولة على صعيد سياستها والإفادة منها في مجال تحسين الوضع العام في البلد. ففي خمسينيّات القرن الماضي، كتبت في الكتاب الذي لمحت إليه في سؤالك (بحثاً عن قيم جديدة، 1956) أنّ «التصلّب الطائفي الذي يرغم الحكام على صيانة ما يسمى حقوق الطوائف الدينية « يشل أجزاء من الإدارة. وأمّا مصدر التعصّب الطائفي فهو انهيار الإيمان الديني الذي اضمحل مع حب الكسب المادي، وذلك أدّى بمعظم اللبنانيّين إلى العيش بمعزل عن كل معتقد ديني أصيل وعن أية إيديولوجية وطنية قادرة على تأمين تماسكهم. ولأجل ذلك، يجتاز اللبنانيون مرحلة اضطراب وجودي بفعل فتور معتقداتهم الدينية التي كانت تؤمّن إلى حد ما تواصلهم، من جهة، وبفعل فشلهم عن الاستعاضة عما فقدوه دينياً بإيديولوجية أو بسلّم قيم من شأنهما أن يسدا هذا الفراغ، من جهة ثانية. والعلة تكمن في الفروقات الطائفية التي تحول دون وضع وتنفيذ خطة عمل متماسكة، من شأنها أن تعبر عن إرادة اللبنانيين الجماعية وتتجاوب مع طموحاتهم المشتركة. وقد اقترحت في الكتاب نفسه حلاً يقضي بالإيمان بقيمة الإنسان، وبرسالته، وبواجبه على تقبّل وضعه ومصيره. فبإمكان تلك المقومات أن تشكّل بديلاً ليس فقط عن تطيّفه فحسب، بل عن إيمانه الديني. وعليه، يعطي كل إنسان انطلاقاً من سياقه أفضل ما عنده للخير العام، ولبناء تواصل سليم مع أفراد مجتمعه الذين يخولونه تخطّي تجربة العدم والولوج إلى وجود أصيل. وفي هذا المناخ الذي يولده ويغذيه الاحترام المتبادل، في هذا الإطار من الإسهام العفوي في تشييد مجتمع الغد، سيتمكن اللبنانيون من بناء قيمهم الجديدة ومن السيطرة على أهوائهم المضللة ومن التخلّص من المشكلات التي تقلق وجودهم الفردي والجماعي. لكن لسوء الحظ، يبقى التشرذم الطائفي مانعاً للبنانيين من القيام بهذه الثورة التي عليها أن تغيّر أوضاعهم.

 ■ هل لديك كلمة أخيرة عن الربيع العربي؟

من الصعب الإجابة لأنّنا لا نعرف تماماً إن كان العرب صانعيه، أو إن كانوا مدفوعين من قبل أحد لصنعه. ولكن كيف تريدني أن أقتنع بأنّ هذه الثورة ولدت كلّها في الوقت نفسه من المغرب إلى المشرق؟ كيف يمكن أن تولد حاجة هذه الشعوب في وقت واحد ومفاجئ؟ لا بّد أنّ محركاً خارجياً قام بوظيفة ما، وهنا السؤال: هل يمكن لهذا المحرك أن يوصلني إلى نتائج هي فعلاً لمصلحة الإنسان، لمصلحة الديموقراطية؟ أم هو يعمل لاستغلالنا مجدداً ووضعنا في أحضانه؟ نريد أن نعلم كيف ولدت هذه الحركات، ولماذا لم تتطوّر في بلدان كالسعودية والإمارات والكويت؟ برأيي لأنّ الأميركي يصرّ على السلم في تلك المناطق من أجل مصالحه الاستراتيجية ومنها البترول. ولكن في أماكن مختلفة لم يكن ذلك سهلاً. وباعتقادي أنّه يجب ربط التدخل الخارجي في هذه الثورات بشحن يقوم به الأميركي لخلق معسكرين متعاديين، السنّة والشيعة، ما يتيح له إقامة مظلّة أمان فوق إسرائيل.

تعريف

 جوزف أبو رزق من مواليد المتين في 1926. تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة أبيه القروية، وكان اسمها «العلم اللبناني». ومن بعدها درس في مدرسة الحكمة، حيث شغف بمواد الأدب والفلسفة والشعر. تابع بإيعاز من أحد أساتذته الفرنسيين دروسه الفلسفية لمدّة ثلاث سنوات في مدرسة الآداب، ومن بعدها في جامعة الألبا، حيث حصل على شهادته في بدايات الخمسينيات. لم يشأ كتابة أطروحة دكتوراه، لأنّه لم يقبل أن يحكم أحد على عمله. بدأ التدريس في جامعة الألبا وفي الكثير من المدارس، وقد تولى تنشئة الأساتذة الثانويين بالتعاقد مع وزارة التربية، إذ ترأّس لجنة الفلسفة في الامتحانات الرسمية لمدّة 30 سنة. هو أول من علّم فلسفة الجمال في لبنان (Esthétique)، ولا يزال يدرّس إلى اليوم. من أهم مؤلفاته: «بحثاً عن قيم جديدة»، و«Le procès de la conscience»، و«Esquisse d’une esthétique»، و«La feuille du figuier»، و«Enquête d’un refuge».

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 21.12.2011

Nassif Nassar : la deuxième Nahda arabe arrive, Al-Akhbar, 27.10.2011

ناصيف نصّار: النهصة العربية الثانية آتية

 18 Nassif Nassar

ناصيف نصّار، فيلسوف النهصة العربية الثانية، من أهم أعلام الفلسفة في لبنان والعالم العربي. اجتازت فلسفته المسافات وعرفت في العالم الغربي حيث تكلّمت عنها الصحافة واستشهدت بها الدراسات العلميّة وكتبت عنها

 ■ ما هي الفلسفة؟

ـــــ تعريف الفلسفة هو إحدى مشكلات الفلسفة، فهي تبحث عن تعريفها منذ وجودها، والمسألة مطروحة على فلاسفة اليوم كما كانت مطروحة على جملة الفلاسفة عبر العصور. فمفهوم الفلسفة يتغيّر ويتخذ اتجاهات بحسب تطور الفكر الفلسفي، وبحسب تفاعل الفلسفة مع قطاعات التفكير الأخرى وأنماطها، في الدين، في العلم، في الايديولوجيات وغيرها. لكن في نظري يمكننا أن نعتمد تعريفاً عاماً يصلح لكي نرتكز عليه في عصرنا اليوم وفي عالمنا العربي: الفلسفة هي تفكير عقلي نظامي في مبادئ المعرفة والوجود والعمل. ذلك التعريف العام يميّز التفكير الفلسفي عن التفكير الديني أو العلمي أو الايديولوجي أو الاسطوري أو الطوباوي أو الأدبي…

 ويكفي لكي نستنبط منه مشاريع للبحث وقضايا تهمنا في العالم العربي، وفي كل العالم، لأنّ الفلسفة كونيّة الطابع في الأساس، ولأنّها عقلانية ونظاميّة وتعنى بالإنسان وليس بجماعة معيّنة أو بمنطقة معيّنة من العالم. ذلك هو التعريف الذي أعتمده، وقد كتبت كثيراً عن الموضوع بخاصة عندما اصطدمت في بدايات مسيرتي الفلسفية بالايديولوجية، فرأيت من الواجب التمييز بين الفلسفة والايديولوجية.

 ■ وما هي الايديولوجية؟

ـــــ هي منظومة أفكار اجتماعية مرتبطة أصلاً بوجود جماعة تاريخية معينة، موضوعة للدفاع عن هويّة تلك الجماعة ومصالحها، ومن أجل تحديد فاعليّتها في مرحلة تاريخية معيّنة. الايديولوجية هي فكر جماعة، ينبثق من جماعة معيّنة، من أجل وجود ومصلحة تلك الجماعة. أستعمل كلمة جماعة بمعناها الواسع جداً، فيمكن أن تكون طبقة اجتماعية، أو أمّة، أو طائفة دينية، أو شريحة إثنيّة. كل ما هو دون النوع البشري والبشرية عموماً يقع في تعريفي تحت مصطلح «جماعة». لكن لا بد أنّ هناك تقاطعاً قويّاً بين الفلسفة والايديولوجية، وذلك ليس مصدر إرباك، بل وجه من وجوه التنوّع والتداخل في نشاط الفكر الإنساني.

 ■ ولكن على أي صعيد يتلاقيان؟

ـــــ يتلاقيان على سبيل الخصوص في مسألة النظر إلى السياسة، أو الإنسان، أو القيم، ولا يتطابقان. مثلاً: كل إيديولوجية تتضمن بطريقة أو بأخرى، في تصورها للجماعة التي تدافع عنها، مفهوماً معيّناً للإنسان، لأنّ تلك الجماعة وجه من وجوه الوجود الإنساني. لكنّ ذلك الموضوع ــ الإنسان ــ لا يكون في الايديولوجية موضوع النظر الأساسي، إنما يكون موضوع نظر ثانوي أو ضمني يبنى عليه، لأنّ المقصد الرئيسي في التفكير الايديولوجي هو وجود الجماعة التي يجري الدفاع عنها. ذلك هو الفرق الكبير الأوّل، لأنّ الفكر الفلسفي يعنى بالإنسان كإنسان أيّاً كان اللون والعرق والزمان والانتماء الاجتماعي.

 ■ ماذا عن الايديولوجيات في لبنان؟

ـــــ لبنان يعج بالإيديولوجيات. الإيديولوجيات الطائفية الموجودة منذ عدّة قرون، وقد اتخذت طابعاً سياسياً محدداً مع نشوء دولة لبنان الكبير، وهي مرّت بمراحل عدّة، وخاصّة عبر الاستقلال والحرب المأساويّة والطائف. نحن اليوم نعيش في مرحلة قويت فيها الإيديولوجيات الطائفية إلى حد أنّنا أصبحنا لا نفكّر بالمجال العام إلا طائفياً، إذ إنّنا كنّا قبل ذلك، قبل الحرب، نفكّر تفكيراً مزدوجاً: تفكيراً قائماً من جهة على الطوائف، وتفكيراً قائماً على المجال الوطني، لأنّ الوطن اللبناني الذي تمثّله الدولة اللبنانية كان يفتح آفاقاً جديدة للاندماج وللترقي وللتطور الاجتماعي على أساس الديموقراطية الوطنية. تلك الآفاق منحصرة جداً اليوم، وهي موجودة فقط لدى بعض الأحزاب أو التيارات أو النقابات اليساريّة.

 ■ ما هو دور الفلسفة الآن في العالم العربي؟

ـــــ الفلسفة حاجة ثقافية أساسية بالنسبة الى العالم العربي، بالرغم من كلّ العقبات التي تواجهها وبالرغم من كلّ التطور المتناقض الذي يطرأ على المجتمعات العربية تحت تأثير المجتمعات الغربية. نحن نحتاج إلى الفلسفة لكي نعيد النظر في أوضاعنا، في تقاليدنا، في قيمنا، في حقوقنا، في مصائبنا، في نكباتنا، في تخلّفنا… الفلسفة هي أداة لبناء العالم العربي من جديد بحسب مفاهيم جديدة عن الإنسان، عن القيم، عن السياسة، عن الاجتماع، عن الدين، عن علاقة الإنسان بالطبيعة… تلك موضوعات لا بد للفكر العربي من أن يتناولها من منطلق فلسفي بحت.

 ■ ما هي أفكارك الفلسفية الأساسية؟

ـــــ لدي ثلاثة مؤلفات تعبّر عن فلسفتي. «طريق الاستقلال الفلسفي» هو كتاب وضعته بعد تجاربي الأولى في البحث والتأليف في سبعينيات القرن الماضي، وهو كتاب في المنهج، أحدّد فيه المفاهيم والطرق التي ينبغي للفيلسوف العربي أن يعتمدها وأن يسلكها لكي يخرج من تاريخ الفلسفة ويصبح فيلسوفاً بحسب مقتضيات الخصوصيّة الثقافيّة العربية، علماً أنّ الفلسفة هي كونّية الطابع، ولكنّها تعمل في إطار خصوصيات ثقافية، فهي تتقدّم على مستوى الجدليّة القائمة بين الكونيّة والخصوصيّة: خصوصيّة الوضع، وكونيّة الموضوع. كثير من الناس الذين يعرفونني يقرنون اسمي بذلك الكتاب، لأنّه بالواقع، ومن دون أيّ تبجّح، علامة فارقة في الفلسفة والثقافة العربية المعاصرة، وقد خصّته الموسوعة الفرنسية الفلسفية الكونية الصادرة عن PUF بعمودين في بداية التسعينيات. بعد ذلك، اشتغلت على بناء المنهج، فوضعت أعمالاً فلسفية متنوعة ومتكاملة صدرت تباعاً بعد ذلك التاريخ، أهمّها «منطق السلطة» الذي أطرح فيه نظرية متكاملة لموضوع السلطة الذي هو موضوع رئيسي في مؤلّفاتي. وأعتقد أنّه، كما قال أحد الباحثين من ذوي الاطلاع الواسع، بحث غير مسبوق. ثم كتبت كتاباً كاملاً عن الحريّة التي هي بنظري مفهوم فلسفي متلازم مع مفهوم السلطة. كتابي «باب الحريّة» لا يدخل في تفاصيل الحريّات الميدانيّة، بل هو قائم على الدفاع عن مبدأ الحريّة وأوّليّة الحريّة في الوجود الإنساني. وبعد ذلك، ساقتني أبحاثي إلى التعمّق في موضوع الوجود التاريخي الذي خصصت له كتاباً كاملاً تحت عنوان «الذات والحضور».

 ■ ما رأيك بالربيع العربي وكيف تقرأه؟

ــ تلك حركات هامة جداً في رأيي، تمثّل احتجاجات قويّة على الأوضاع العربية وبخاصّة على أنظمة الاستبداد والفساد التي سادت في معظم الدول العربية، وهي حركات احتجاجية تأخذ مسالك ثورية، لكنّنا لا نعرف بالضبط ما إذا كانت ستحقق ذاتها كثورات. المسألة مختلفة من بلد إلى آخر. ما كنّا نقوله منذ أشهر لم يعد صالحاً اليوم، أعني أنّ الأمل الذي أُثير من ثورتَي مصر وتونس أصبح النظر إليه اليوم مختلفاً، لأنّ المشهد العربي اليوم يضعنا أمام مقاومات وتناقضات وتداخلات معقّدة، يضعنا أمام أوضاع عاصفة يجد الحراك الثوري فيها صعوبة للتقدم كما في اليمن، وفي البحرين. المشهد السوري أعقد من كلّ المشاهد التي عرفناها، ولا نعرف إلى أين يسير. هناك إصلاح مطلوب وموعود، ولكنّنا لا نعرف تحديداً إن كان سينجح النظام القائم بالسلوك فعلياً نحو ذاك الإصلاح. إذاً نحن اليوم أمام تحرّك عربي كبير، ومخاض شاركت فيه قوىً كبيرة وخاصة قوى الشباب، لكنّنا لا نجد وضوحاً في البرامج والوسائل والمسالك، وكأنّنا في حالة من التجربة والخطأ، وهذا لا ينبئ بأنّ الربيع العربي سيسير نحو مآلات مضمونة أو مدروسة بما فيه الكفاية. على أي حال، ما جرى تحرّك مهم جداً أخرج العالم العربي من حالة الجمود والركود التي كان فيها لعقود طويلة، وأحيا الأمل بأنّ الشعوب العربية والأجيال الجديدة في العالم العربي يمكنها أن تسعى وأن تعمل بجد في سبيل مستقبل أفضل تحت راية الديموقراطية. أنا من المنظرين المعروفين في العالم العربي لما يسمى بالنهضة العربية الثانية. كتبت في الموضوع أكثر من مرّة، وأرى أنّ ما يجري الآن في العالم العربي هو محطّة للخروج من الهزيمة التي وقعت على العالم العربي منذ حرب حزيران 1967، وذلك في اتجاه النهضة العربية الثانية.

 ■ ماذا عن العلمانية والطائفية في لبنان؟

ـــــ كتبت عن العلمانية منذ 40 سنة. فكتابي «نحو مجتمع جديد» صدر في أواخر الستينيات وهو الآن في طبعته الخامسة، وهو من الكتب الكلاسيكية للفكر السياسي اللبناني. وضعت في ذلك الكتاب نقداً للنظام الطائفي اللبناني. ودافعت فيه عن العلمانية بديلاً للنظام الطائفي في لبنان. وكتبت بعد ذلك في الموضوع، وآخر ما صدر لي من محاضرات كان تحت عنوان: «العلمانية انتصاراً للعدل»، وأعدت نشر ذلك النص في آخر كتاب صدر لي منذ عدّة أشهر: «الإشارات والمسالك». موضوع العلمانية بالنسبة إلي موضوع لا مهرب منه، فإنّه يمثّل مستقبل المجتمع اللبناني ولو كان ذلك غير واضح الآن وغير قريب. لبنان يتخبّط في ايديولوجيّاته وتناقضاته الطائفية ومهما فعلنا لكي نحافظ على النظام الطوائفي في لبنان، فإنّنا سنجد أنفسنا أمام مآزق لا مخرج منها إلا بالاتجاه نحو العلمانية. أنا أعرف تماماً أنّ تلك مسألة كبيرة وبعيدة المنال ولكنّها ليست بالبعد الذي يتصوّره خصومها وأعداؤها والذين يتمسّكون بالنظام الطائفي ولا يريدون أن يبدّلوا فيه شيئاً. لكنّ العلمانية بحاجة إلى توضيح كثير لأنّ المفهوم ليس واضحاً بما فيه الكفاية وليس له تصوّر واحد معروف ومقبول لدى الجميع، ولذلك تسهل مهاجمتها وتأويلها والتملّص من موجباتها بحسب موقع الناظر ومفهومه لها. فلذلك ستبقى حتى على ذلك الصعيد موضوعاً للبحث وإعادة النظر والبناء الدائم.

تعريف

 ولد نصّار في بلدة نابيه، في المتن الشمالي، في 1940. بعدما نال شهادة دكتوراه الدولة في الفلسفة من السوربون في 1967، علّم في الجامعة اللبنانيّة من 1967 حتى 2005. عيّن عميداً لكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة وعميداً لمعهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانية. شارك في تأسيس وإدارة الجمعيّة الفلسفية العربيّة (مقرّها عمّان) والمؤسسة العربية للتحديث الفكري (مقرّها جنيف). نال جائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافيّة للدراسات الإنسانيّة في 1999، كما نال الرتبة الدولية للاستحقاق (IOM) من المركز البيوغرافي الدولي في كمبريدج، بريطانيا، في 2003. له مؤلّفات عديدة منها: طريق الاستقلال الفلسفي (1986)، الايديولوجية على المحك (1994)، ومنطق السلطة (2001). أصدر الاتحاد العربي للجمعيّات الفلسفية بالتعاون مع مجلّة «أوراق فلسفية» كتاباً جماعيّاً تحت عنوان «قراءات نقديّة في فكر ناصيف نصّار» (القاهرة، 2004).

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 27.10.2011

Paul Khoury : les religions et les perspectives de la modernité, Al-Akhbar, 06.10.2011

بولس الخوري: الأديان وتوقعات الحداثة

 850d87db

صدرت حديثاً في فرنسا عن سلسلة «الفكر الديني والفلسفي العربي»، الطبعة الثالثة لكتاب الفيلسوف بولس الخوري «الإسلام والمسيحية، الحوار الديني وتحدّي الحداثة» (منشورات لارمتان، باريس، 2011). إعادة إصدار ذلك الكتاب ـــــ الذي تعود طبعته الأولى إلى 1973 ـــــ تشدّد على مستلزمات الحوار الإسلامي المسيحي الآنيّة التي لم تتغيّر في أربعة عقود، لا بل كبرت مسوّغاتها، وتعيد طرح مسألة الحداثة وتحدّياتها في عالم عربي لا يزال ينتظر نهضته الثانية.

 يتألّف كتاب الخوري من أربعة فصول ترنو إلى التساؤل عن معنى الحوار الإسلامي المسيحي في عالم حديث، تخطّى بمفاهيمه الأسس التي قامت عليها النظرات الدينيّة إلى الوجود. فالحداثة أسهمت في تحوّلات أدّت بثقافات عدّة إلى الانتقال من الحالة المجتمعية الدينيّة إلى حالة مجتمعيّة دنيويّة (séculière) تناقض غالباً مفاهيم دينّية موروثة. فالدين الذي كان يفسّر العالم، وينظّم المجتمع بكل تفاصيله، فقد جزءاً كبيراً من تأثيره، إذ بات العالم يتطوّر ويعيش بمعزل عنه، على أصعدة جمّة، منها العلميّة والتكنولوجيّة والسياسية. ينقل ذلك الواقع الجديد تحدّيات الأديان من مكان إلى آخر، إذ يترتّب عليها الإعراض عن النزاعات الدينيّة العقيمة، لأجل توحيد جهودها ومواجهة تحدي إظهار معناها وفائدتها في عالم الحداثة. «هذه المهمّة غير مستحيلة على الرغم من المظاهر. لأنّ أفضل ما في الحداثة يلاقي جوهر الأديان. أي الإيمان، الذي هو قصد المطلق، وانطلاقاً من ذلك، تصميم على تحقيق الإنسان بالملء والحقيقة».

 على الرغم من أنّ «الحداثة أمر غامض»، يحاول الكاتب استنباطها على نحو حصيف، في الفصل الأوّل، عبر التحدّيات التي تفرضها على المنطق والأنظومة والنظرة الدينية إلى الوجود. مصدر الحداثة هو الغرب، وإحدى مقوّماتها الأساسية، الدنيويّة، هي نقض للأنظومة الدينية التي تصبو إلى الإحكام على كلّ مفاصل حياة الإنسان في المجتمع، عبر محتويات تعاليمها العقائدية، وطقوسها، وعلومها الأخلاقية والروحية، ومؤسساتها، وتنظيمها للحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعيّة. فالحداثة تعدّ العقائد والروايات الدينية أسطورية، والطقوس والرتب خرافية، وعلوم الدين الأخلاقية مستحيلة، والمؤسسات الدينية غير ضروريّة بحكم وجود مؤسسات علمانيّة، والتنظيم الديني السياسي للمجتمع كواقع يجب إبداله بالعلمانية التي تفصل بين سلطة الدين وسلطة السياسة. أضف إلى ذلك مقوّمة النقد التي لا تقبل أيّ معطى لا يسلّم به العقل الذي هو مصدر العلوم والتقنيّات، وكل الحضارة الغربية الحاليّة. فإنسان الحداثة مستقل عن القوانين والنظم المفروضة عليه من خارج اختباره العلمي والعقلاني، أو من جانب النظرة الدينيّة إلى الوجود، وهو حرّ تجاه كلّ مطلق ديني، أو ماورائي أو موحى، لا بل يضحي هو القيمة المطلقة المبنيّة على العقل الناقد. لذلك ينظّم إنسان الحداثة مجتمعه وحياته وسياسته واقتصاده وثقافته، انطلاقاً من مكتسبات العقل، ولا يقبل أيّة سلطة تدّعي تخطّيه. وعلى الرغم من كلّ المظاهر، يرى الخوري أنّ مكتسبات الحداثة ليست بغريبة عن الشرق العربي. فعلى الإسلام والمسيحيّة أن يواجها، في الغرب كما في الشرق، تحدّي الحداثة، وأن يثبتا، وهما آخذان بعين الاعتبار مكتسباتها، أنّ فحوى دعوتيهما تلاقي توق الإنسان الكوني إلى المعنى وإلى المطلق.

 يقترح الفصل الثاني أسس حوار تخوّل الإسلام والمسيحية إظهار جدواهما في معترك الحداثة. ورأس الكلام في تلك الاقترحات هو أنّ على كلّ ديانة أن تعرض عن اعتبار أنظومتها مطلقة، وأن ترى أنّ محتواها نسبيّ، وأن تتمسّك بما هو في أساس الدين، أي الإيمان كبحث عن المعنى وقصد للمطلق. ليست الديانة بالنسبة إلى الخوري معطى موحى، بل ظاهرة تاريخيّة: «هي بناء بشري، متنوّع كتنوّع الشعوب، لأنّها نظام تعبيرات الإيمان الثقافيّة». لذلك، لا يمكن أيّة واحدة منها أن تكون وحدها حقيقية. فهي فانية وليست موضع ظهور الله. موضوع ذلك الظهور هو الإنسان الذي يعبّر عبر الثقافات عن اختباراته الإيمانية بسبل متعدّدة ومنها الدين. يضع ذلك، الإيمان، في محور تكوين الثقافات وفي أساس بناء الإنسان. فحوار الأديان هو انطلاقاً من ذلك ترفيع للإيمان، أي «التزام من أجل تحقيق الإنسان بملئه»، وهو لا يتناقد مع عقل الحداثة، بل يستعمله لإعادة تأويل إرثه الديني وتفسير رموزه على نحو يلازم تطوّر الثقافات والحضارات. فلا يعود التعبير الديني تعبيراً مطلقاً وعقائدياً، بل تعبيراً ثقافياً ورمزياً يعبّر عن بحث الإنسان العميق عن معنى وجوده وعن أصالته. ولا يعود الحوار حواراً بين أنظومات عقائدية، بل بين اختبارات وجوديّة مختلفة، لكل منها تعبيراتها الثقافيّة الخاصّة، دينيّة كانت أو لا. يتيح ذلك لكل منتم إلى دين الاغتناء باختبارات الآخرين وإغناءهم، والتعمّق في رموز ديانته وتصحيح توقه إلى المطلق. يعي الكاتب صعوبة قبول الديانتين ذلك الاقتصار الكبير للإيمان، وعسر تسليمهما بعدم إطلاقيّة المسيح أو القرآن. فيعالج الفصل الثالث تلك المسألة من خلال عرض الأسس التي تقوم عليها الأنظومتين الدينيّتين، والتمييز بين الأمور الأساسيّة، والأمور التي يمكن تكييفها مع مقتضيات القرائن التاريخية والاجتماعية. ويظهر من خلال ذلك العرض أنّ نقاط التقارب بين المسيحية والإسلام كبيرة، وأهمّها التفاعل مع إشكاليّات الحداثة، والتحدي الذي تمثله للدين، إذ يخلص الخوري إلى القول إنّ «انشغال المسلمين الحالي يلاقي جوهريّاً انشغال المسيحيين، وكلاهما مرغمان على تخطّي خلافاتهما وتبرير وجود الدين بوجه شكوك العالم الآني تجاهه».

 يرى الكاتب في الفصل الأخير أنّ الديانتين، على رغم كونهما أنظومتين مختلفتين، ما هما إلا وجهان لخبرة إيمانيّة واحدة ومتشابهة في عمقها. وخلاصة تفكراته أنّه يمكن إعادة تأويل كل محتوياتهما على نحو رمزي، لا يتعارض مع مكتسبات الحداثة، بل يبرّر وجودهما ورسالتهما التي لا تتغيّر ـــــ كالإسلام لله أو كالمحبّة ـــــ مع تغيير ما هو ثانوي في الإيمان. فمهما تغيّرت الأنظومات الدينيّة، تبقى الخبرات الإيمانيّة ثابتة في ثنايا اختبارات الإنسان الوجودية. أمّا نقد الأنظومة الدينيّة، فيحررها مما هو ثانوي أو عرضي، ويتيح للإيمان سبلاً للتعبير الأصيل عن ذاته «كأعلى شكل من الاختبار الإنساني». وبناءً عليه، يتجلّى الإسلام والمسيحية، بغض النظر عن أشكالهما العقائدية والمؤسساتيّة، كديانتين حاملتين رسالة خالدة للإنسان، تملأ على نحو مناسب توقعات العالم الحديث وبحثه عن المعنى. وعلى تلك الرسالة التحريرية أن تضحي عملاً سياسيّاً، أي نضالاً من أجل الإنسان وخيره في المجمتع.

 إنّ تفكّرات بولس الخوري تلك تمثّل إحدى أسس قراءته الفلسفيّة لواقع الدين والحداثة، وهي بلا شكّ من أهمّ المقوّمات الفكريّة الأساسيّة التي يجب على الباحث العربي في فلسفة الدين أن يستند إليها. وقد عبّر الفيلسوف عن تلك الأفكار بطرق مختلفة في كتابات عدّة، ومن أهمّها اقتباس من كتابه «في فلسفة الدين» (دار الهادي، بيروت، 2002)، يلقي مزيداً من الضوء على إشكاليّة الحوار الديني، إذ يقول: «إنّ أيّة منظومة دينيّة ليست إلا أداة يتوسّلها الناس كي يعيشوا إيمانهم بالله. يضاف إليه أنّ الأنظومة الدينيّة ليس لها امتياز التعبير عن الإيمان. فالإيمان يعيشه كل بشري ضمن ظروفه الخاصّة حتّى من دون الانتماء إلى أي دين. والله لا يعجز عن أن يهدي إليه أي بشري في طريق الدين أو في أي طريق آخر. وبناءً عليه تحوّل مفهوم المسيحيّة ومفهوم الكنيسة بتحوّل مفهوم المسيح ومفهوم الله. فمتى كان المسيح الإنسان الذي حصل على الخلاص، أي الذي اكتمل وتأصّل كيانه الإنساني بحلول الله فيه، أي بتطابق واقعه ومعناه، ومتى كان هذا المعنى هو ما سُمّي الله في الأديان، صارت الكنيسة مشروع تجميع الناس على المحبّة، وصارت أصول المسيحيّة أصول المسيرة البشريّة نحو اكتمال الإنسانيّة في كل بشري» (ص. 124).

 يطرح ذلك الكتاب تساؤلات كثيرة برسم أهل الاستنارة، عن معنى الدين وإعادة تأويل محتوياته ورموزه، وعن فعل إيمان الإنسان والمعنى الذي يصبو إليه. فيضحي ذلك التفكّر الفلسفي أداة نقد في متناول العقل الذي يبحث عن التخلّص من تحجّر الفكر الديني التقليدي، ويرنو إلى فهم قصد الإنسان للمطلق على نحو يتلاءم مع مكتسبات الحداثة، لكن، لا شكّ أنّ الحداثة تعيش مأزقاً كبيراً في شرقنا العربي، الذي تظلمه يوماً بعد يوم أصوليّات دينيّة تكره الحداثة ومحتوياتها، ولا ريب أنّ حالة الحوار الديني عسيرة، تتجاذبها أحياناً طائفيّات وسياسات بغيضة. وعلى الرغم من ذلك، تبقى قضيّة الإنسان، وأصالته، وحقوقه، ومواطنته، وعيشه الكريم، وتنظيم مدينته السليم، القضيّة الأولى والحافز الأساسيّ الذي يدفع إلى تخطّي النكسات العربيّة، والدافع إلى الرهان على النتائج الخلاصيّة التي يفترضها قبول الغيريّة، والاعتراف بالتنوّع البشري الشرعي، دينياً كان أو علمانياً. إضافة إلى قراءة نصوصه الأصليّة، يمكن القارئ الاطلاع على فلسفة بولس الخوري من خلال مجموعة دراسات حديثة عن فكره، قام بها كبار الاختصّاصيين في لبنان، صدرت في 2010 تحت عنوان «بولس الخوري، فيلسوف اللاكمال»، عن منشورات الجامعة الأنطونيّة، في سلسلة «اسم عَلَم». ومن المهمّ التوقّف عند ما كتب عنه على غلاف ذلك الكتاب، لما يلقيه من ضوء على شخصه وعلى فكره: «بولس الخوري اسم عَلَم لأكثر من إنجاز وأكثر من تهمة. لعلّه قبل كل شيء عَلَم الاتضاع المعرفي. فهذا الثمانيني الموسوعي الذي يتنقل بجدارة بين الفكر اليوناني القديم، والفكر العربي الإسلامي الوسيط والمعاصر، والفلسفة الغربية الحديثة، واللاهوت والفسارة الأنتروبولوجيّة والتاريخ، ما زال ينقّب ويراجع بتواضع طالب في ابتدائيّة الفكر. شُغل بولس الخوري بالإنسان من منطلق رفض الإنسانويّة المتطرّفة واللاهوتيّة المتطرّفة، فكان خطّه «الأنتروبولوجي» منزلة بين المنزلتين انطلق منها ليوزّع اهتماماته البحثيّة على محاور ثلاثة هي حوار المسيحيّة والإسلام، وإشكاليّة الحداثة العربيّة، وفلسفة الخيبة، مغنياً المكتبة العربيّة والعالمية بعشرات المؤلّفات».

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 06.10.2011