|
Paul Khoury : les religions et les perspectives de la modernité, Al-Akhbar, 06.10.2011 بولس الخوري: الأديان وتوقعات الحداثة
صدرت حديثاً في فرنسا عن سلسلة «الفكر الديني والفلسفي العربي»، الطبعة الثالثة لكتاب الفيلسوف بولس الخوري «الإسلام والمسيحية، الحوار الديني وتحدّي الحداثة» (منشورات لارمتان، باريس، 2011). إعادة إصدار ذلك الكتاب ـــــ الذي تعود طبعته الأولى إلى 1973 ـــــ تشدّد على مستلزمات الحوار الإسلامي المسيحي الآنيّة التي لم تتغيّر في أربعة عقود، لا بل كبرت مسوّغاتها، وتعيد طرح مسألة الحداثة وتحدّياتها في عالم عربي لا يزال ينتظر نهضته الثانية.
يتألّف كتاب الخوري من أربعة فصول ترنو إلى التساؤل عن معنى الحوار الإسلامي المسيحي في عالم حديث، تخطّى بمفاهيمه الأسس التي قامت عليها النظرات الدينيّة إلى الوجود. فالحداثة أسهمت في تحوّلات أدّت بثقافات عدّة إلى الانتقال من الحالة المجتمعية الدينيّة إلى حالة مجتمعيّة دنيويّة (séculière) تناقض غالباً مفاهيم دينّية موروثة. فالدين الذي كان يفسّر العالم، وينظّم المجتمع بكل تفاصيله، فقد جزءاً كبيراً من تأثيره، إذ بات العالم يتطوّر ويعيش بمعزل عنه، على أصعدة جمّة، منها العلميّة والتكنولوجيّة والسياسية. ينقل ذلك الواقع الجديد تحدّيات الأديان من مكان إلى آخر، إذ يترتّب عليها الإعراض عن النزاعات الدينيّة العقيمة، لأجل توحيد جهودها ومواجهة تحدي إظهار معناها وفائدتها في عالم الحداثة. «هذه المهمّة غير مستحيلة على الرغم من المظاهر. لأنّ أفضل ما في الحداثة يلاقي جوهر الأديان. أي الإيمان، الذي هو قصد المطلق، وانطلاقاً من ذلك، تصميم على تحقيق الإنسان بالملء والحقيقة».
على الرغم من أنّ «الحداثة أمر غامض»، يحاول الكاتب استنباطها على نحو حصيف، في الفصل الأوّل، عبر التحدّيات التي تفرضها على المنطق والأنظومة والنظرة الدينية إلى الوجود. مصدر الحداثة هو الغرب، وإحدى مقوّماتها الأساسية، الدنيويّة، هي نقض للأنظومة الدينية التي تصبو إلى الإحكام على كلّ مفاصل حياة الإنسان في المجتمع، عبر محتويات تعاليمها العقائدية، وطقوسها، وعلومها الأخلاقية والروحية، ومؤسساتها، وتنظيمها للحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعيّة. فالحداثة تعدّ العقائد والروايات الدينية أسطورية، والطقوس والرتب خرافية، وعلوم الدين الأخلاقية مستحيلة، والمؤسسات الدينية غير ضروريّة بحكم وجود مؤسسات علمانيّة، والتنظيم الديني السياسي للمجتمع كواقع يجب إبداله بالعلمانية التي تفصل بين سلطة الدين وسلطة السياسة. أضف إلى ذلك مقوّمة النقد التي لا تقبل أيّ معطى لا يسلّم به العقل الذي هو مصدر العلوم والتقنيّات، وكل الحضارة الغربية الحاليّة. فإنسان الحداثة مستقل عن القوانين والنظم المفروضة عليه من خارج اختباره العلمي والعقلاني، أو من جانب النظرة الدينيّة إلى الوجود، وهو حرّ تجاه كلّ مطلق ديني، أو ماورائي أو موحى، لا بل يضحي هو القيمة المطلقة المبنيّة على العقل الناقد. لذلك ينظّم إنسان الحداثة مجتمعه وحياته وسياسته واقتصاده وثقافته، انطلاقاً من مكتسبات العقل، ولا يقبل أيّة سلطة تدّعي تخطّيه. وعلى الرغم من كلّ المظاهر، يرى الخوري أنّ مكتسبات الحداثة ليست بغريبة عن الشرق العربي. فعلى الإسلام والمسيحيّة أن يواجها، في الغرب كما في الشرق، تحدّي الحداثة، وأن يثبتا، وهما آخذان بعين الاعتبار مكتسباتها، أنّ فحوى دعوتيهما تلاقي توق الإنسان الكوني إلى المعنى وإلى المطلق.
يقترح الفصل الثاني أسس حوار تخوّل الإسلام والمسيحية إظهار جدواهما في معترك الحداثة. ورأس الكلام في تلك الاقترحات هو أنّ على كلّ ديانة أن تعرض عن اعتبار أنظومتها مطلقة، وأن ترى أنّ محتواها نسبيّ، وأن تتمسّك بما هو في أساس الدين، أي الإيمان كبحث عن المعنى وقصد للمطلق. ليست الديانة بالنسبة إلى الخوري معطى موحى، بل ظاهرة تاريخيّة: «هي بناء بشري، متنوّع كتنوّع الشعوب، لأنّها نظام تعبيرات الإيمان الثقافيّة». لذلك، لا يمكن أيّة واحدة منها أن تكون وحدها حقيقية. فهي فانية وليست موضع ظهور الله. موضوع ذلك الظهور هو الإنسان الذي يعبّر عبر الثقافات عن اختباراته الإيمانية بسبل متعدّدة ومنها الدين. يضع ذلك، الإيمان، في محور تكوين الثقافات وفي أساس بناء الإنسان. فحوار الأديان هو انطلاقاً من ذلك ترفيع للإيمان، أي «التزام من أجل تحقيق الإنسان بملئه»، وهو لا يتناقد مع عقل الحداثة، بل يستعمله لإعادة تأويل إرثه الديني وتفسير رموزه على نحو يلازم تطوّر الثقافات والحضارات. فلا يعود التعبير الديني تعبيراً مطلقاً وعقائدياً، بل تعبيراً ثقافياً ورمزياً يعبّر عن بحث الإنسان العميق عن معنى وجوده وعن أصالته. ولا يعود الحوار حواراً بين أنظومات عقائدية، بل بين اختبارات وجوديّة مختلفة، لكل منها تعبيراتها الثقافيّة الخاصّة، دينيّة كانت أو لا. يتيح ذلك لكل منتم إلى دين الاغتناء باختبارات الآخرين وإغناءهم، والتعمّق في رموز ديانته وتصحيح توقه إلى المطلق. يعي الكاتب صعوبة قبول الديانتين ذلك الاقتصار الكبير للإيمان، وعسر تسليمهما بعدم إطلاقيّة المسيح أو القرآن. فيعالج الفصل الثالث تلك المسألة من خلال عرض الأسس التي تقوم عليها الأنظومتين الدينيّتين، والتمييز بين الأمور الأساسيّة، والأمور التي يمكن تكييفها مع مقتضيات القرائن التاريخية والاجتماعية. ويظهر من خلال ذلك العرض أنّ نقاط التقارب بين المسيحية والإسلام كبيرة، وأهمّها التفاعل مع إشكاليّات الحداثة، والتحدي الذي تمثله للدين، إذ يخلص الخوري إلى القول إنّ «انشغال المسلمين الحالي يلاقي جوهريّاً انشغال المسيحيين، وكلاهما مرغمان على تخطّي خلافاتهما وتبرير وجود الدين بوجه شكوك العالم الآني تجاهه».
يرى الكاتب في الفصل الأخير أنّ الديانتين، على رغم كونهما أنظومتين مختلفتين، ما هما إلا وجهان لخبرة إيمانيّة واحدة ومتشابهة في عمقها. وخلاصة تفكراته أنّه يمكن إعادة تأويل كل محتوياتهما على نحو رمزي، لا يتعارض مع مكتسبات الحداثة، بل يبرّر وجودهما ورسالتهما التي لا تتغيّر ـــــ كالإسلام لله أو كالمحبّة ـــــ مع تغيير ما هو ثانوي في الإيمان. فمهما تغيّرت الأنظومات الدينيّة، تبقى الخبرات الإيمانيّة ثابتة في ثنايا اختبارات الإنسان الوجودية. أمّا نقد الأنظومة الدينيّة، فيحررها مما هو ثانوي أو عرضي، ويتيح للإيمان سبلاً للتعبير الأصيل عن ذاته «كأعلى شكل من الاختبار الإنساني». وبناءً عليه، يتجلّى الإسلام والمسيحية، بغض النظر عن أشكالهما العقائدية والمؤسساتيّة، كديانتين حاملتين رسالة خالدة للإنسان، تملأ على نحو مناسب توقعات العالم الحديث وبحثه عن المعنى. وعلى تلك الرسالة التحريرية أن تضحي عملاً سياسيّاً، أي نضالاً من أجل الإنسان وخيره في المجمتع.
إنّ تفكّرات بولس الخوري تلك تمثّل إحدى أسس قراءته الفلسفيّة لواقع الدين والحداثة، وهي بلا شكّ من أهمّ المقوّمات الفكريّة الأساسيّة التي يجب على الباحث العربي في فلسفة الدين أن يستند إليها. وقد عبّر الفيلسوف عن تلك الأفكار بطرق مختلفة في كتابات عدّة، ومن أهمّها اقتباس من كتابه «في فلسفة الدين» (دار الهادي، بيروت، 2002)، يلقي مزيداً من الضوء على إشكاليّة الحوار الديني، إذ يقول: «إنّ أيّة منظومة دينيّة ليست إلا أداة يتوسّلها الناس كي يعيشوا إيمانهم بالله. يضاف إليه أنّ الأنظومة الدينيّة ليس لها امتياز التعبير عن الإيمان. فالإيمان يعيشه كل بشري ضمن ظروفه الخاصّة حتّى من دون الانتماء إلى أي دين. والله لا يعجز عن أن يهدي إليه أي بشري في طريق الدين أو في أي طريق آخر. وبناءً عليه تحوّل مفهوم المسيحيّة ومفهوم الكنيسة بتحوّل مفهوم المسيح ومفهوم الله. فمتى كان المسيح الإنسان الذي حصل على الخلاص، أي الذي اكتمل وتأصّل كيانه الإنساني بحلول الله فيه، أي بتطابق واقعه ومعناه، ومتى كان هذا المعنى هو ما سُمّي الله في الأديان، صارت الكنيسة مشروع تجميع الناس على المحبّة، وصارت أصول المسيحيّة أصول المسيرة البشريّة نحو اكتمال الإنسانيّة في كل بشري» (ص. 124).
يطرح ذلك الكتاب تساؤلات كثيرة برسم أهل الاستنارة، عن معنى الدين وإعادة تأويل محتوياته ورموزه، وعن فعل إيمان الإنسان والمعنى الذي يصبو إليه. فيضحي ذلك التفكّر الفلسفي أداة نقد في متناول العقل الذي يبحث عن التخلّص من تحجّر الفكر الديني التقليدي، ويرنو إلى فهم قصد الإنسان للمطلق على نحو يتلاءم مع مكتسبات الحداثة، لكن، لا شكّ أنّ الحداثة تعيش مأزقاً كبيراً في شرقنا العربي، الذي تظلمه يوماً بعد يوم أصوليّات دينيّة تكره الحداثة ومحتوياتها، ولا ريب أنّ حالة الحوار الديني عسيرة، تتجاذبها أحياناً طائفيّات وسياسات بغيضة. وعلى الرغم من ذلك، تبقى قضيّة الإنسان، وأصالته، وحقوقه، ومواطنته، وعيشه الكريم، وتنظيم مدينته السليم، القضيّة الأولى والحافز الأساسيّ الذي يدفع إلى تخطّي النكسات العربيّة، والدافع إلى الرهان على النتائج الخلاصيّة التي يفترضها قبول الغيريّة، والاعتراف بالتنوّع البشري الشرعي، دينياً كان أو علمانياً. إضافة إلى قراءة نصوصه الأصليّة، يمكن القارئ الاطلاع على فلسفة بولس الخوري من خلال مجموعة دراسات حديثة عن فكره، قام بها كبار الاختصّاصيين في لبنان، صدرت في 2010 تحت عنوان «بولس الخوري، فيلسوف اللاكمال»، عن منشورات الجامعة الأنطونيّة، في سلسلة «اسم عَلَم». ومن المهمّ التوقّف عند ما كتب عنه على غلاف ذلك الكتاب، لما يلقيه من ضوء على شخصه وعلى فكره: «بولس الخوري اسم عَلَم لأكثر من إنجاز وأكثر من تهمة. لعلّه قبل كل شيء عَلَم الاتضاع المعرفي. فهذا الثمانيني الموسوعي الذي يتنقل بجدارة بين الفكر اليوناني القديم، والفكر العربي الإسلامي الوسيط والمعاصر، والفلسفة الغربية الحديثة، واللاهوت والفسارة الأنتروبولوجيّة والتاريخ، ما زال ينقّب ويراجع بتواضع طالب في ابتدائيّة الفكر. شُغل بولس الخوري بالإنسان من منطلق رفض الإنسانويّة المتطرّفة واللاهوتيّة المتطرّفة، فكان خطّه «الأنتروبولوجي» منزلة بين المنزلتين انطلق منها ليوزّع اهتماماته البحثيّة على محاور ثلاثة هي حوار المسيحيّة والإسلام، وإشكاليّة الحداثة العربيّة، وفلسفة الخيبة، مغنياً المكتبة العربيّة والعالمية بعشرات المؤلّفات».
أنطوان فليفل
جريدة الأخبار 06.10.2011
|
|
Leave a Reply