Newsletter

Pour recevoir les nouvelles du site, entrez votre courriel et cliquez sur « Je m’abonne »

Pas dans le but de défendre le patriarche maronite, Al-Akhbar, 15.09.2011

ليس دفاعاً عن سيّد بكركي

 16 Antoine Fleyfel Rai

 في السابع من أيلول الجاري، كنت من بين الحاضرين في مركز مجلس الأساقفة الفرنسيّين في باريس، أشارك في المؤتمر الصحافي للبطريرك الماروني، بشارة الراعي. الحديث المشوّق بينه وبين الصحافيين الفرنسيين فاجأني، إذ كانت تفكّرات سيّد بكركي الجيوسياسيّة مختلفة جدّاً عن لغة خشبيّة وباهتة لطالما ألفناها. وكم كنت سعيداً عندما عبّر أصدقاء لي، صحافيون وجامعيون فرنسيون، عن إعجابهم برقي الحديث وعمق التحليل وجدّيته. ولكنّ شعوري ذلك كان مصحوباً بمخاوف من سوء فهم كلام الراعي واستثماره السياسي الرخيص منذ اللحظات الأولى لانتهاء المؤتمر، حين انتهره بعصبيّة بعض الصحافيين اللبنانيّين، طالبين التوضيح لأنّ «كلامه خطير»، وبالأخص ما قاله في الدقيقة الأخيرة من المؤتمر عن الموضوع السوري. وبالفعل، لم تتأخر ردّات الفعل البتة عن الموعد، فاعتُبر الراعي مثيراً للنعرات الطائفيّة، ومدافعاً عن سوريا، وضارباً الدولة اللبنانيّة، وخارجاً عن أدبيّات بكركي، ومعطياً غطاء لحزب الله يثبّت معادلة الجيش والشعب والمقاومة، ومسلّفاً مواقف إيجابيّة لسوريا…

 لا شكّ أنّ كل ما يُكتب ويُقال هو خاضع للتأويل. فالتأويل علم، علم الفَسارة، حاول كبار الفلاسفة واللاهوتيّين وكل رجال العلم إتقانه، من أجل التوصّل إلى أوضح وأدقّ وأمتن فهم للأمور والأفكار. ولكن ما يدهشني هو أن يتناول سياسيون ورجال دين لهم مكانتهم في المجتمع اللبناني كلام البطريرك الراعي في ذلك اليوم، ويأوّلوه بخفّة وتشويه واستثمار سياسي رخيص، يمكن المراقب الناقد أن ينظر إليها كتعبير عن قدراتهم التأويليّة… احتراماً للعقل الناقد، وليس دفاعاً عن سيّد بكركي بل أمانة لما أعلنه، وهو يستحق أكثر بكثير ممّا احتوته المواقف المتشنّجة من اجتزاء وعدم أمانة، ينبغي توضيح أقوال بشارة الراعي عن موضوعي سلاح حزب الله وسوريا.

 لم يدافع البطريرك الماروني في ذلك اليوم عن سلاح حزب الله، بل قال إنّ الحزب المتحالف مع سوريا وإيران، الذي يملك المال والتنظيم على كل الأصعدة، يشكّل مشكلة كبيرة لأجل سلاحه. فمن الواجب إيجاد حلّ لذلك السلاح. لم يبرّر الراعي بقوله ذاك أبداً بقاء سلاح حزب الله، ولم يدافع عنه، لكنّه عرض ثلاثة مبرّرات موضوعيّة يستعملها الحزب لتبرير محافظته على سلاحه، من دون أن ينقضها أو أن يعتبرها ضلالاً. فحزب الله يعتقد، بحسب الراعي، أنّ سلاحه لا يزال ضرورة، أ) لأنّ جزءاً من أرض جنوب لبنان لا يزال ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي، ب) لأنّ واقع وجود اللاجئين الفلسطينيّين على أرض لبنان مع أسلحتهم موضوع يجب معالجته بعودتهم إلى أرضهم، ت) ولأنّ الجيش اللبناني ليس مسلّحاً بالشكل المناسب للدفاع عن أرض لبنان. تلك هي مبررات حزب الله، وليست مبررات الراعي الذي يريد حلّ مسألة السلاح. فلذلك، طلب البطريرك من الدولة الفرنسيّة مساعدة اللبنانيين على إبطال تلك المبررات، من خلال ضغوط دبلوماسيّة مناسبة، وخطوات عمليّة، أي عبر تطبيق قرارات مجلس الأمن التي تلزم اسرائيل بالانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانيّة، وتطبيق قرارات مجلس الأمن التي تطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيّين إلى أرضهم في فلسطين، ومن خلال تسليح الجيش بالشكل المناسب، ما يسمح له بالدفاع عن حدود لبنان. لم يدافع الراعي عن حزب الله، بل طالب باحترام المقررات الدوليّة، وتسليح الجيش اللبناني لإبطال مبررات حزب الله وحلّ مسألة سلاحه.

 

تندرج أقوال الراعي عن سوريا من ضمن مبادئ الكنيسة العامّة وتحاليل تصيب واقع المتغيّرات المستجدّة في الشرق الأوسط، ومنها الربيع العربي. هو يؤكّد أنّ مطالب الشعوب العربيّة بالعيش الكريم محقّة، وهو مع كلّ الإصلاحات اللازمة. لكنّ البطريرك عبّر عن مخاوف ثلاثة للسلطات الفرنسيّة: خشية استبدال الأنظمة الحاليّة بأنظمة أصوليّة، وخشية حصول حروب أهليّة طائفيّة كما في العراق، يدفع المسيحيون ثمنها غالياً، والخشية من مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي قد يؤول إلى تفتيت البلدان العربيّة إلى دويلات طائفيّة. وعندما تكلم على الواقع السوري، لم يتوان الراعي عن التذكير بالمعاناة التي لم ينسها من ذلك النظام في لبنان.، لكنّه عقّب على ذلك مستعملاً صيغة الماضي، مضيفاً إنّ الرئيس الأسد كان قد بدأ بإصلاحات سياسيّة، وإنّه كان يجب إعطاؤه فرصة للمباشرة بتلك الإصلاحات، «بالأخص لتجنّب العنف»، ولحاجته الى الوقت لأنّ الحكم في سوريا ليس قائماً فقط على شخصه، بل على ماكينة حزب البعث السياسيّة. وأشار البطريرك بوضوح الى أنّ الكنيسة لا يمكنها أن تأخذ موقفاً إيجابياً أو سلبياً من أي نظام، لكنّها مع كل حلّ يعطي الشعوب حقوقها، ويجنّب العنف. فإن كان بالإمكان تجنّب العنف الحاصل الآن في سوريا، وبلوغ المطالب المحقّة للمواطنين، فأين الخطأ؟ أمّا مخاوف البطريرك من تداعيات تغيير النظام في سوريا، وحصول حرب طائفيّة، فهي مبنيّة على التجربة العراقية، وهو طرح السؤال: «ماذا كان العراق، وماذا أصبح؟ أين هي الديموقراطيّة التي أرادوها؟». لم يدافع الراعي عن النظام السوري، بل أعلن عن آمال كانت لديه لحلّ تلك المسألة، من دون اللجوء إلى العنف الحاصل الآن، ومن خلال تطبيق إصلاحات سياسية داخليّة. ولم يقل إنّ على النظام البقاء أو الذهاب، بل طرح تساؤلات عدّة تأخذ بعين الاعتبار معطيات إقليميّة موضوعيّة (بالأخص أوضاع المسيحيين في العراق ومصر)، ومبادئ كنسيّة كالحياد السياسي وتجنّب العنف.

 باختصار، طالب البطريرك الماروني بالأمور الآتية: إبطال مبررات حزب الله للتخلّص من سلاحه، التوصّل إلى إصلاحات يريدها الشعب السوري من دون عنف وقتل، نبذ قيام كيانات أصوليّة أو دويلات طائفية، عودة الفلسطينيّين إلى أرضهم، تحرير ما بقي من أرض لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وتسليح الجيش. فهل تلك المطالب هي فعلاً مخالفة لثوابت بكركي التاريخيّة، ومشرّعة لسلاح حزب الله ومؤيّدة للنظام السوري؟

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 15.09.2011

Béchara Sargi: le monde arabe n’existe pas, Al-Akhbar, 08.09.2011

بشارة صارجي: العالم العربي غير موجود

 15 Bechara Sargi

ولد بشارة صارجي في 1930 في بيروت، وبعد دراسته الفلسفة واللاهوت في إكليريكيّة دير المخلّص في جون، سافر إلى روما لمتابعة دروسه الفلسفيّة، هناك كتب أطروحة دكتوراه عنوانها «La participation de l’être dans la philosophie de Louis Lavelle»، طُبعت في منشورات بوشان عام 1957، وقدّمها له الفيلسوف الكبير بول ريكور. عاد صارجي إلى لبنان وعلّم في جامعات عدّة. كان الدكتور صارجي منتمياً إلى الرهبانيّة المخلصية، وكتب في تلك المرحلة من حياته، في 1975، كتاب «العلاقات الجنسيّة والدين»، الذي أثار ضجّة كبيرة، وانتقد فيه التعليم الأخلاقي الديني التقليدي حول الجنس. أدّى به تطوّر فكره بهذا الخصوص إلى أخذ قرار الزواج، اقتناعاً منه بأنّ حياة الإنسان لا تكتمل من دون عائلة. له كتابات عدّة وإطلالات متنوّعة على شاشات التلفزيون، ومنها برنامج «نور الأديان» على «تيلي لوميار».

 قليلون هم الذين يتذكرّون صاحب المحاضرة الشهيرة التي ألقيت في 11 شباط 1958: «في سبيل فلسفة لبنانية»، في زمن كان فيه الصراع في أوجه بين نزعات العروبة واليسار ومقولات القوميّة اللبنانيّة واليمين. يطلعنا في هذه المقابلة الفيلسوف اللبناني بشارة صارجي على تفكّراته الفلسفية

 ■ ما هي الفلسفة؟

الفلسفة هي استخدام العقل، والعقل مجالاته لا حدود لها. يستطيع المرء أن يذهب إلى أقصى الحدود باستعمال العقل وأن يكون مطمئناً في نهاية المطاف إلى المكان الذي يصل إليه. وذلك تحديد ليس بجديد، عرفناه منذ أيّام أرسطو الذي قال إنّ الفلسفة هي البحث عن الأسباب النهائية والعميقة. وفكرته مشهورة في كتابه حول علم الماورائيات (métaphysique): أبدأ بالعمق، ولا أستطيع في نهاية المطاف إلا الوصول إلى فوق، عند الله. فهكذا، لا حدود للفلسفة، بالعمق وبالصعود إلى فوق. إن لم يستعمل الإنسان عقله، لا يمكنه العيش.

 ■ هل لا تزال للفلسفة وظيفة في العالم العربي حالياً؟ وهل هي قادرة على إعطاء أي شيء للعالم العربي؟

كلمة عالم عربي غامضة بعض الشيء لأنّ من الصعب تحديد العالم العربي. هناك بشر يعيشون في البيئة العربية، منهم من يتأثرون بالفلسفة، ومنهم من لا يتأثرون. المشكلة أنّه لا يوجد الآن عالم يمكننا تسميته العالم العربي. يجمع العرب قليلاً الدين الإسلامي، والبترول، والأوضاع الاجتماعية. لكن العالم العربي الذي حلم به الكثيرون في بداية القرن العشرين ليس له وجود لأنّه ضُرب بعدما تفككت الإمبراطورية العثمانية. لم تتأسس الوحدة العربية المرجوة في ذلك الزمان. استخدام العقل يفيد دائماً كلّ الناس. لكن «الشطارة» تكمن في كيفية استعمالهم له، وبقدرة إرادتهم على المثابرة في السير بطريق العقل. ذلك أمر يتطلّب الكثير من التعب والجهد. لكنّني لست «يائساً» ولا أقول إنّ العالم العربي لا يستفيد. لكن تعبير «عالم عربي» أضحى غامضاً.

 ■ إذاً فلنتكلّم عن السياق العربي، أي الشرق الأوسط والدول التي يحويها

ينبغي على العقل أن يؤدي دوراً أساسياً، لأنّه سبيل التطوّر في ذلك السياق العربي، وخاصة سبيل للأنسنة. الإنسان يتمايز عن بقيّة المخلوقات بالعقل. أنا لا أخترع شيئاً جديداً، فقد تمّ التعريف عنه منذ القديم على أنّه حيوان عاقل. إذا استخدم عقله استفاد، وإن لم يستخدمه تدنّى. المسألة واضحة! لا نريد أن نقدّم كتباً تقول إنّ الفلسفة هي دراسة الأشياء في أسبابها الأخيرة، إلخ. الفلسفة هي حول كيفية استخدام العقل في الحياة، وهذا أمر ضروري ومهم.

 ■ ما هي الأفكار الأساسية التي ينادي بها بشارة صارجي؟

على صعيد الوجود الإنساني، أنا أؤمن بمبدأ وبهدف خاصين بي. فأنا أعتقد أنّ على كلّ إنسان يريد أن يعيش حياة سليمة أن يعلم وأن يحدد من أين أتى وإلى أين يذهب. في تلك العملية، لدينا في وجودنا الإنساني، إلى جانب العقل، ما نسميه الإيمان. والإيمان هو من العمليات الإنسانية التي تخوّلنا خلق العلاقة مع الأمور. العقل يمكن أن يكون جزئياً، بينما الإيمان يدخلنا في حياتنا كلها. وذلك أمر بالغ الأهمية لأنّه لا يوجد على وجه الأرض إنسان لا يستعمل إيمانه في بداية الأمور. حتى الملحد، يصبح ملحداً بإيمان. مثلاً، المسيحي، قبل كل شيء يؤمن بالكتاب المقدّس حتى من دون درسه أو قراءته. المسلم يؤمن بالقرآن حتى قبل دراسته. فعملية الإيمان تلك موجودة في حياة كل إنسان. وإن أراد الإنسان أن لا يؤمن، فذلك أيضاً فعل إيمان أن لا يؤمن، لأنّه لا برهان على كل ذلك. ولكن كل إنسان على وجه الأرض يستعمل تلك العملية التي نسميها إيمان وهي أوسع من العقل. العقل يبرر، أما الإيمان فهو لا يبرر. الإيمان تسليم يسند نفسه بعد ذلك إلى العقل. الإيمان هو قبل كل شيء، وهو الذي يدفعنا بعد ذلك إلى توجيه عقلنا. أنا واجهت تلك المسألة عندما كنت أتكلّم السنة الماضية عن المؤمن المسيحي ونظرية داروين. لست بوارد دحض تلك النظرية العلمية، لكنّني في الوقت نفسه لا أزال أؤمن بما يقوله سفر التكوين. ذلك يعني بالنسبة إلي أنّ الإنسان الذي يمكن أن يكون حصيلة تطور طبيعي في جسده، لم يصبح إنساناً إلا بتدخل إلهي. وتلك فحوى رواية الكتاب المقدّس. ولكن، هل صنعه من تراب أو من قرد؟ ذلك ليس الموضوع. الموضوع هو أنّ وجود الإنسان على الأرض نابع من تدخل إلهي. وتلك قناعة استقيتها من الكتاب المقدّس، بفعل إيمان. تريحني تلك خلاصة. هل هذا خطأ أم صواب؟ ذلك إيماني أنا. وبعد ذلك، إن تكلّمت عن الإنسان، أتكلّم عنه انطلاقاً من هذا الإيمان. إن قبلت بالعلم، أقبل به انطلاقاً من هذا الإيمان. فلذلك، عليّ احترام إيمان غيري في حوار الأديان، وأن أساعده على عيش إيمانه بحسب منطلقاته. يجب نبذ الفكر القائل بأنّ الحقيقة واحدة وبأنّها موجودة في مكان واحد. فلولا إيماني لما قلت عن حقيقتي إنّها حقيقة. ولولا إيمان المسلم لما قال عن حقيقته إنّها حقيقة. ولكن في أي وقت تصبح حقيقة المسلم أو حقيقة المسيحي حقيقة بالفعل؟ عند عيشها. وذلك ما يقوله الفيلسوف كيركغارد: «الحقيقة ليست من حقل المعرفة، لكنّها اختصاص كل الذاتيّة (subjectivité)». فمن يعيش حقيقته هو حقيقي. تلك هي فكرتي الأساسية، فإن لم تكن الفلسفة خادمة للإنسان فلا قيمة لها. والفلسفة التي تريد إيصال الإنسان إلى العدم، أنا أرفضها.

 ■ إذاً أنت تعارض كلّ التيارات الفلسفية التشاؤمية؟

أجل، كلّها. فنظرتي الفلسفية لها منطلق واضح: الإنسان قيمة على هذه الأرض، وعندما يجتمع مع الآخر يصبح قيمة أكبر. أنا لا أقبل أن يكون وجود الإنسان لا معنى له. وقد قلت شيئاً في 1959 أغضبت أثناءها المسلمين والمسيحيين: قبل أن أكون مسيحياً أو مسلماً، أنا لبناني، أنا كائن طبيعي ولد في هذا البلد. هذا اللبناني يعتنق المسيحية أو يعتنق الإسلام.

 ■ ماذا عن العلمانية والطائفية؟

كنت أتناول العشاء في 1956 مع بول ريكور، وكان في ذلك الحين هناك مشكلة فرنسا والجزائر. وقال لي أثناءها إنّ النموذج المثالي للجزائر هو لبنان. وبالفعل، عندما ولد لبنان كان نموذجاً، باقة جميلة، لكن لعبة الأمم شوّهته، وبالأخص الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيّة في 1948 واللجوء الفلسطيني الذي تلاه إلى لبنان. فذلك زجّ به في عمق القضيّة الفلسطينيّة، ما أضاع التوازن الذي كان موجوداً عند ولادته، إذ لم تكن هناك من طائفة طاغية. إنّ الظلم الذي عاشه الفلسطيني على أرضه وواقع نزوحه إلى لبنان ساهما في خلق واقع طائفي، وقتل ذلك لبنان.

 ■ إذاً، القضية الفلسطينية لها علاقة بمشاكل لبنان؟

القضية الفلسطينية قضيّة محقّة، والشطارة أنّها بقية قضية محقّة على الرغم من لعبة الأمم. كانوا يريدون قتل القضية الفلسطينية لكي ينساها العالم ولم يفلحوا في ذلك. فحتى إسرائيل تحسب الآن لها حساب. لكن، على الرغم من تلك الوقائع، أبقى مقتنعاً بأنّ مشكلة لبنان لن تنحلّ طالما لم يتم التوصّل إلى حلّ للقضيّة الفلسطينيّة.

 ■ كيف تنظر إلى الربيع العربي؟

الشيء الأكيد أنّ الشعب أصبح متضايقاً من أنظمته، لكنّني لا أرى أنّ الحلّ آت بتلك السهولة. الشعب بدأ الآن بالتذمّر في تونس وفي مصر. الثورة هي في العادة من تخلق مجتمعها، لكن شعوري أنّ الثورات ليست بطور خلق مجتمعها في العالم العربي، وأنّ الثوب الحاضر (prêt à porter) قد حاكه الخارج للعالم العربي. الثورة هي وليدة المعاناة في العالم العربي، لكن الخارج يتكفّل الآن بإكمال الطريق.

لست مطمئناً على استمرارية الثورات وعلى بلوغها أهدافها. ومن المحتمل أن يقسّموا الدول العربية أكثر وأكثر. فالعراق تقسّم، واليمن على الطريق، وسوريا هي المسألة الكبيرة في ظل إصرار دول غربية على إزاحة النظام. والمشكلة الأكبر هي في تغيير الحكم في سوريا مع عدم وضوح من قد يتسلّم الحكم في حال سقوطه.

حاوره أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 08.09.2011

Joseph Maalouf : la théologie du dialogue avec la modernité, Al-Akhbar, 02.09.2011

جوزيف معلوف: لاهوت الحوار مع الحداثة

 14 Maalouf Mihnat

 في كتابه الأخير، يتناول أستاذ الفلسفة جوزيف معلوف إصلاحيي الفكر اللاهوتي في القرن العشرين، وتحديداً البروتستانت منهم، والتحديّات التي واجهتهم بعد تنامي النقد في أوروبا تجاه النص الديني عموماً

 صدر حديثاً عن «سلسلة سبيلنا إلى الوحدة المسيحية» كتاب لأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، الدكتور جوزيف معلوف، بعنوان «محنة الفكر الديني، مفكّرو الإصلاح في القرن العشرين» (منشورات المكتبة البولسية ـــــ 2011). يروم هذا البحث إلقاء الضوء على التحدّيات الفكرية التي واجهت لاهوتيي الإصلاح البروتستانتي في القرن العشرين، إثر تغيّر القرائن التاريخية والاجتماعية والفكرية التي ولد فيها ذاك الإصلاح في القرن السادس عشر. ولا يتوانى معلوف عن وصف «المحنة المصيريّة التي تعانيها المسيحية» الغربية التي أسهم في استثارتها «التيار العقلاني وتنامي الروح النقدية في أوروبا إزاء تاريخيّة النص الديني، وتفسير الوحي الإلهي، وعلاقة الله بالإنسان، ومضمون العقائد».

 يؤدّي هذا الكتاب خدمة جليّة للفكر الديني العربي، إذ يملأ فراغاً كبيراً، عبر دراسته ـــــ باللغة العربية ـــــ أفكار كبار لاهوتيي الإصلاح في القرن العشرين، ومن خلال إدراج تلك الأفكار ضمن تيّارات لاهوتيّة تتكامل وتتجابه، تتطور أو تضمحل. يُدخل الكاتب القارئ إلى تفكّر إيماني نادراً ما نفقهه في العالم العربي، حيث الغلبة إجمالاً للنص الديني الذي يتخطّى التاريخ، لتأويل المؤسسة الدينية أو لجمود العقائد، إذ يتميّز لاهوت الإصلاح الغربي بدرجة رفيعة جدّاً من النقد العلمي والتقابس مع الفلسفة والعلوم الوضعية والإنسانية والتاريخية، وهو لا يتوارى عن الغوص في تساؤلات قصيّة تصيب أقدس التقاليد، وتطيح أمتن المفاهيم الدينيّة المُسلّم بها. يقدّم أيضاً هذا الكتاب ترجمات لمصطلحات لاهوتية ولمفاهيم دينية لطالما تساءل قارئ اللغات الأجنبية عن كيفيّة تعريبها بأمانة. أمّا المنهجية العلمية التي يستعملها معلوف، فهي تُطلع الباحث على أسلوب نقد في العلوم الدينية قلّما ألفناه في سياق كَثُرت فيه الدراسات الدينية الدفاعية، والتقويّة، والسطحيّة، والتاريخيّة.

 يشبه هذا الكتاب موسوعة مصغّرة لفكر الإصلاح الغربي في القرن العشرين، تولّفه وتعرض باقتضاب دسم ورفيع، منهجيّة لاهوتيّين يصعب الاستقصاء عن أفكارهم وكتاباتهم في المكتبة الدينيّة العربيّة. من أهمّهم: فريدريك شلايرماخر، أدولف فون هارناك، رودلف بولتمان، فريدريك غوغارتن، كارل بارت، إميل بونر، بول تيليخ، فولفهارت باننبرغ، يورغان مولتمان، دييتريش بونهوفر، غيرهارد إيبلينغ، وإرنست كيزيمان… كما يسطّر الكتاب، بطريقة فذّة، تعاقب التيّارات الفكريّة، فيما يذكّرنا جوزيف معلوف بأنّ القرن العشرين اللاهوتي افتتح بمحاضرة لأدولف فون هارنك، يضع في متناولنا تطوّر الفكر الديني البروتستانتي من خلال نقده لذاته ولقائه مع إشكاليّات الحداثة وتحدّياتها. هكذا، يخيّل إلينا أنّنا أمام رواية مشوّقة تخبرنا عن المسيرة التاريخيّة للتيّارات اللاهوتيّة الكبيرة التي طبعت الفكر الديني الغربي برمّته، ومن أهمّها: اللاهوت الليبرالي، اللاهوت الجدلي، لاهوت الأزمة، اللاهوت الوجودي، اللاهوت التأويلي، لاهوت الثقافة، لاهوت الرجاء، اللاهوت السياسي، مسألة تاريخيّة يسوع الناصري…

 أهمّية هذا الكتاب تتخطّى مسألة الاطلاع البحتة، أو التعرّف على أنظومات دينيّة لم نألفها إلا نادراً، في عالمنا العربي، إذ إنّ تفكّرات اللاهوتيين الذين يعرض معلوف أبحاثهم، تدفع القارئ إلى التبصّر بأعمال لاهوتيّة لا تهاب الحوار مع الحداثة ومكتسباتها، لا بل تستنبط منطقها انطلاقاً من مقولات يرفضها الفكر الديني العربي عامّة، ويواجهها أو يعدّها مخالفة لأسس الإيمان، إذ لم يخشَ لاهوت الإصلاح، في القرن العشرين، قراءة النص الديني قراءة نقدية تاريخية تؤدّي مثلاً، مع رودولف بولتمان، إلى «تفكيك الأسطورة» الكتابية. فهذا الأخير رأى أنّ صياغة الكتاب المقدّس أسطوريّة، وأنّ على اللاهوت المسيحي أن يعبّر عن حقيقة الإيمان عبر خطاب يحترم تقدّم الأبحاث العلمية، ويتكلّم لغتها، ولا يعرضها باسم نظرة إلى العالم ترقى إلى أكثر من ألفي عام. فالفرق شاسع بالنسبة إلى اللاهوت الوجودي واللاهوت التأويلي، بين معنى النص المقدّس الذي يبقى الأساس، وطريقة التعبير عن هذا المعنى بخطاب نسبي، عليه أن يجاري دائماً تطوّر الثقافات الإنسانية. ولم يتردّد بعض هؤلاء اللاهوتيين باعتبار أنّ العلمانية تستمدّ مبادئها من الإيمان المسيحي، مثل غوغارتن، الذي يقول إنّ العلمانية نتيجة منطقيّة للمسيحيّة، إذ «إنّ لاهوت العلمانيّة هو محور الإصلاح منذ مارتن لوثر في مطلع القرن السادس عشر». يتجلّى ذاك المنطق بأبهى حلله في فكر بونهوفر، الذي قضى في المعتقل النازي في 1945، وتكلّم عن مسيحيّة آتية لادينيّة، تعبّر عن رسالة المسيح الإيمانيّة، في عالم راشد لا يحتاج إلى الدين في مقاربته لأصالة وجوده.

 كلّ تلك المحاولات اللاهوتية كان هدفها بناء خطاب ديني يثبت أنّ الإيمان والحداثة لا يتناقضان، وأنّه يمكن الأنظومة الدينية المسيحية أن تجاري تطوّر الإنسان، وأن تسهم في بناء الحضارة الإنسانية بكلّ أصالة، لكن تلك المحاولات ولدت من رحم أزمات متعددة وكبيرة، هزّت كيان الأنظومة المسيحية الغربية التي لطالما اعتادت، على مرّ القرون، العيش في بيئة مسيحيّة صرفة. فمعظم «اللاهوتيين أجمعوا على وجود محنة دينيّة عميقة ومصيرية في المجتمعات الأوروبية، إذ بات الخطاب المسيحي، على حد تعبيرهم، خطاباً باهتاً وخجولاً تنقصه الحيويّة والإبداعية، نظراً إلى حدّية التحدّيات العلميّة والاجتماعية والوجوديّة التي تعترض سبيله». ويخلص الدكتور معلوف إلى القول إنّ «اللاهوت الإصلاحي نجح في إعطاء أجوبة جديدة عن تساؤلات عصرنا عن الله، إلا أنّ هذه الأجوبة تبقى مؤقّتة، إذ ينبغي للاهوتيين أن يعيدوا النظر في كلّ ما كتبوه عن الله، لأنّ اللغة، مهما سمت، تبقى عاجزة عن التعبير عن الله وسموّه. من هنا ضرورة انفتاح المسيحيّة الدائم على النقد… كي تبقى تلك الديانة في نماذجها المتعدّدة قادرة على التجدد والتأثير في حركة التاريخ». تبقى تلك الخلاصة النقدية استنطاقاً برسم الخطابات الدينية في لبنان والشرق، لعلّها تخفّف من وطأة يقينها بامتلاك الحقيقة، وتتّضع أمام السر الذي يسمو كلّ تعبير وكلّ كلام لا تحدّه أيّ مؤسسة دينية أو إنسانية، ولا يمكن أيّ تعليم عقائدي، أو كتاب أو سلطة دينيّة أن تقبض عليه.

 يستثيرنا هذا الكتاب إلى طرح تساؤلات كثيرة برسم القيمين على اللاهوت والخطاب الديني والتفكّر الإيماني في عالمنا العربي، وخاصة في لبنان، حيث لحريّة الفكر هامش أكبر نسبيّاً. هل على قراءات الكتب المقدسة أن تبقى مقفلة أمام باب التأويل العلمي والتاريخي، وهذا التأويل لا يؤذي الإيمان، بل يحرّر من نظرات غير آنيّة إلى العالم، ويوسّع أفق الإنسان الدينية، إذ يضع جانباً فكرة تعارض الحداثة مع الإيمان؟ هل يجوز للبعض المضي في اعتبار العلمانيّة، مع صعوبة تحديدها، منطقاً مضاداً للدين، ومناقضاً له أو متعارضاً معه؟ وهل من المسموح به استمرار الإعراض، في كثير من السياقات الدينية، عن استعمال العقل الناقد والعلمي لفهم معنى الوجود والأصل والإيمان؟

هذا الكتاب ليس أوّل عمل فكري يتطرّق من خلاله البروفسور جوزف معلوف إلى الفكر الديني الناقد، وكتابته في هذا الموضوع ليست أوّل خدمة يؤدّيها لإغناء المكتبة العربيّة الدينيّة. فقد ترجم، بالاشتراك مع أورسلا عسّاف، أحد أهم كتب اللاهوتي الكبير هانس كونغ، الذي تشاجر مع الدوائر الفاتيكانيّة، في أواخر السبعينيّات «مشروع أخلاق عالميّة» (بيروت، دار صادر، 1998). يتكلّم هذا الكتاب عن ضرورة إيجاد أخلاق كونيّة يتلاقى البشر على أساسها، كما يشدّد على أنّه لا يمكن التوصّل إلى سلام عالمي من دون سلام ديني، ولا يمكن البلوغ إلى سلام ديني من دون الحوار بين الديانات. تلك الأطروحات تضع جانباً كلّ منطق يروم القبض على الحقائق الأخلاقيّة وقولبتها في حقيقته، أدينيّة كانت أم لا. فالتوصّل إلى مبادئ العيش الإنساني في المدينة هو من مسؤوليّة كلّ المواطنين، أكانوا متديّنين أم علمانيّين، ويتطلّب ذلك من كلّ الأطراف حواراً عميقاً وأصيلاً، واعترافاً بالقيمة الإنسانيّة الأخلاقيّة الموجودة عند الآخر، أمرتكزة كانت على الدين أم لا. ذاك الفكر الديني الناقد الذي يقر بالقيمة الأخلاقيّة الموجودة عند كلّ البشر، يتعارض مع كلّ منطق ديني تقليدي أو طائفي لا يؤمن إلا بحقيقة مصدرها أنظومته الخاصّة، لا بل يسير هذا الفكر في مسلك المنهج العلماني الذي ينطلق من فكر إنسانوي، قوامه قيمة الإنسان الذاتيّة وإسهامه، عبر حياته الخاصة وإيمانه، في إغناء الحياة الإنسانيّة من خلال خبراته الوجوديّة وتفكّراته. كتاب «محنة الفكر الديني» تناول تلك الإشكاليّات على نحو أوسع، وأدرجها ضمن مسيرة فكريّة تخصّ تيّارات لاهوتيّة ولاهوتيّين عدّة. وقد أظهر تلازم العلمانيّة مع الفكر الديني الناقد، وأهمّيتها لإيمان أصيل يعيشه إنسان الحداثة وما بعد الحداثة. ذاك الفكر الديني الناقد يصرّ على أنّ العلمانيّة هي في زمننا أفضل الأنظمة الإنسانيّة الضامنة للحريّة الدينيّة، وللعيش الكريم وللتلاقي الإنساني. ينطبق ذلك طبعاً على شرقنا العربي، وبالأخص على لبنان، حيث يتفشّى المنطق الطائفي الذي يستكرهه الفكر الديني الناقد. وقد كتب جوزف معلوف في هذا السياق انّه «مقتنع بأنّ المشرق العربي سيتفكّك ويتقهقر إن لم يواكب الحداثة في توجّه علماني منفتح يضمن حقوق الجميع، ويرفع من استقلاليّة الفرد، ويحترم الأديان وخصوصيّتها» (العلمانيّة: مطلب أقليّات أم حاجة مشرقيّة، محاضرة أُلقيت في 5/12/ 2009، في مؤتمر «العلمانيّة في مسألة متجدّدة» في جامعة الروح القدس الكسليك).

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 02.09.2011

Rima Tawil… l’opéra en arabe, Al-Akhbar, 18.08.2011

ريما طويل… الأوبرا بلسان العرب

 12 rima tawil

“شعبي، من غربتي، أنادي، قل معي: لبنان غرامي”. كلمات تحملها حنجرة ذهبية بأداء لم يألفه إنسان الأرض العربيّة. “سلام وغرام! سلام عليك يا لبنان!” دعاء بلغة الضاد يرفعه صوت ملائكي تثير ألفاظه عجب مرء مولع بموسيقى ليريكيّة لم يعهدها إلا بنطق أوروبي. إنّها أسطوانة Orientarias ، مقصد جريء وفذّ، ابتدعته السوبرانو ريما الطويل ذات الشهرة العالميّة، مشروع يجسّد إسهاما منها للسلام في منطقة الشرق الأوسط وللصداقة بين شعوبه وشعوب الغرب.

 انطلقت مسيرة ريما في الكونسرفاتوار اللبناني حيث درست الغناء الكلاسيكي، ثم أكملت في “لاسكالا” (ميلانو) بعدما كانت أحد الطلاب الثلاثة الذين اختيروا من بين 600 متبارٍ. أبدعت في الغناء على المنابر العالميّة للأوبرا الكلاسيكيّة في أوروبا وأميركا. وجادت بصوتها مع كبار الموسقيين حتّى في لبنان، حيث غنّت مع خوسي كاريراس في “يت الدين” (2002) ومع بلاسيدو دومينغو في “مهرجانات بعلبك” (2005).

 التنوّع اللغوي لازم السوبرانو اللبنانيّة ـــــ الفرنسية المقيمة في باريس، منذ أكثر من عقدين. لجأت في أدائها الأوبرالي إلى عشر لغات أجنبيّة، بينها الإيطاليّة والألمانيّة والروسيّة… أما فكرة الغناء بالعربيّة، فخطرت لها أثناء دراستها مقاطع باللغة التشيكيّة، وكانت اللسان الأصعب على ريما التي جاهدت لإتقان ألفاظه الثقيلة والمعقّدة. هنا جاءتها الفكرة: لماذا لا تغني باللغة العربيّة “القابلة للتكيّف مع أنغام الموسيقى الكلاسيكيّة، وخصوصاً اللهجة اللبنانيّة”؟ هكذا بزغت فكرة Orientarias، وأساسها أداء غناء باللغة العربية، بحسب تقنيّة الأداء الأوبرالي الغنائي، برفقة أوركسترا كلاسيكيّة وكورس، كما هي الحال مع موسيقى فيردي أو بوتشيني أو تشايكوفسكي. ومع أن قوام هذا النوع من الغناء ليس الطرب، أو الموسيقى الفولكلوريّة الشرقيّة، بل لحن غربي تلازمه بعض النغمات الشرقيّة، فإنّ الآلات الشرقية كالدربكّة والدف والرق والإيقاعات في مقدّمة بعض الأغنيات، تتمازج مع الآلات الغربيّة، وتتزاوج معها، على نحو لم تألفه الموسيقى الكلاسيكّية من قبل، حتى مع المؤلفات التقليديّة ذات الطابع الشرقي، كشهرزاد لريمسكي كورساكوف. فاللفظ العربي، وإن لم يفقهه السامع من اللحظة الأولى، يضفي على الأغنيّة مسحة ساحرة، تلمس الأذن بشكل خفر لتنشرح في باطن شعور موسيقي مدهش.

 أمضت ريما طويل أربع سنوات لإتمام المشروع الذي أشركت فيه الشاعر هنري زغيب، والطبيب كميل طويل (زوج الفنّانة)، والنحات رودي رحمة، والدبلوماسي بهجة رزق، والملحنين سليمان القدسي وفانسان شارييه. وبعد عمل دؤوب ومشوّق، دخل المشروع عالم الفن والأوبرا من بابه الواسع  إذ غنّت ريما في صالة بلايل المرموقة في تشرين الأوّل 2010، ولقيت هذه التجربة الأولى ترحيبا من نقّاد الموسيقى. وقد أتيح لمحبّي الموسيقى أن يلتقوا صاحبة الفكرة الفريدة في أكثر من إمضاء، في الFNAC بباريس (حزيران 2011) حيث بلغت مبيعات الأسطوانة المراكز الأولى، وفي جامعة اللويزة في تمّوز 2011. كما اهتمّت بهذا الحدث عدّة وسائل إعلاميّة مرئيّة ومسموعة ومكتوبة.

 تطمح ريما طويل إلى كسر الحواجز الثقافيّة، وإعطاء اللغة العربية موقعاً في عالم الأوبرا، من خلال موسيقى قريبة من الأذن. وتقول إنّ هدفها فتح أبواب بلدها لفنّ الأوبرا، وحمل فنّ الأوبرا إلى اللغة العربيّة، كما تأمل أن تشجّع التجربة المعنيّين في لبنان، كي يولوا أهميّة أكبر لهذا النوع الموسيقي الذي يجيده ويتذوّقه كثيرون في بلاد الأرز.

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 18.08.2011

Paul Khoury : la laïcité garantit la diversité humaine, Al-Akhbar, 18.08.2011

بولس الخوري: العلمانية تصون التنوّع الإنساني

 13 paul khoury

ولد بولس الخوري في 1921 في دردغيا (صور). بعد دراسته الأدب والفلسفة في بيروت أكمل دراساته وأبحاثه في الفلسفة واللاهوت وعلم الإسلاميّات في روما، ستراسبورغ، بولونيا، فيينّا، مونستر، هايدلبرغ، واشنطن، القاهرة، وباريس، حيث درس مع بول ريكور وموريس مرلو ـــــ بونتي. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لايدن (هولاندا) في 1965، وقد تناول بحثه بولس الإنطاكي، أسقف صيدا الملكي (القرن الثاني عشر). علّم الخوري الفلسفة في مدارس وجامعات عدّة، وأسهم في تأسيس مجلّة آفاق في 1974 في بيروت. يمكن تقسيم نشاطه الفكري إلى ثلاثة حقول من الدراسات والمنشورات: أوّلها يتناول الفكر العربي المعاصر؛ ثانيها يتناول المجادلة اللاهوتيّة الإسلاميّة ـــــ المسيحيّة باللغة العربية، من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر؛ وثالثها يتطرّق إلى مسائل اجتماعيّة، دينيّة وفلسفيّة.

 تحيط ببولس الخوري الكتب من كل الجهات. الحوار شيّق جدّاً مع مؤلّف عشرات الكتب التي تتناول ميادين فكرية عديدة، ومنها الفكر العربي الحديث

 ■ ما هي الفلسفة؟

هي أولاً مجموعة أسئلة نطرحها على كلّ المسائل، حول كل شيء. وهي ثانياً محاولة لفهم المعنى عبر التأويل، فمن المستحيل معرفة الأمور بشكل مباشر، لأنّني أراها من منظاري، ولا يمكنني القول إنّ بمقدوري إدراكها بذاتها، كما هي، ففهمي لها يبقى ملتصقاً بتأويلي ووجهة نظري. لذلك، الفلسفة هي محاولة: هي ما أراه، ما يخيّل إلي، ما يظهر لي تحت ذلك الشكل… هذا ما يمكن الفلسفة أن تقوله، لكن حذار، لا توجد مع الفلسفة أيّة إجابة نهائيّة. ومن يعتقد أنّه أجاب على نحو نهائي فهو متوهّم أشدّ التوهّم.

 ■ هل يمكننا القول من ذاك المنطلق إنّ كلّ الناس فلاسفة؟

في المبدأ، كلّ الناس يطرحون الأسئلة، لذلك هم كلّهم فلاسفة، لكن تنقصهم الوسائل التي تتيح لهم التكلّم بدقة، والتعبير على النحو الملائم والفذّ. تلك الوسائل هي المبادئ المنطقية التي قامت عليها الفلسفة، والمفاهيم اللغويّة الواجب الارتكاز عليها للتمييز بين أنظومة وأخرى، ومفهوم وآخر. لذلك، يتمايز الفيلسوف المتخصص عن بقية الناس الذين لا يملكون الوقت للتعمّق في الأسئلة التي يطرحونها، بحكم انشغالهم بأمورهم الحياتية. أمّا الفيلسوف المتخصص، فلديه كل وقته للتبحّر في السؤال وفي محاولاته للإجابة. إذاً، الكلّ فلاسفة في نقطة الانطلاق، لكن الكلّ ليسوا بمتخصصين لأنّهم لم يقضوا وقتهم في التفكير في الأسئلة والمعنى.

 ■ هل للفلسفة وظيفة ما في عالمنا العربي؟

في كلّ العالم، لا فقط في عالمنا العربي، لأنّ الفلسفة هي البحث عن المعنى. ما معنى كلّ الأمور الموجودة؟ نحن نلاحظ أنّ الأمور موجودة، لكن ما معناها؟ نحن نعلم من خلال العلوم كيف هي موجودة أو كيف تعمل، لكنّ العلوم لا تعطينا الإجابة عن المعنى.

 ■ لكن أليس ذلك هو السؤال نفسه الذي يطرحه اللاهوت أو الإيمان؟

بلى، بالطبع، لكن الإيمان يجيب على طريقته التي هي طريقة اليقين. أما الفلسفة، فهي تقترح إجابات غير نهائية، لعلّها تكون مناسبة.

 ■ لكن مع أهميّتها لكلّ العالم، ما هي رسالتها الحاليّة في العالم العربي؟

هي تساؤل العرب عن معنى وجودهم وعن أحوالهم الآنيّة. لماذا وصلنا إلى هذا الحد من الانحدار؟ في القرون القديمة، كانت الثقافة العربية هي الثقافة بامتياز. فكل الجامعات الأوروبيّة في القرون الوسطى استقت العلوم من الأندلس. درس طلابها في الجامعات العربية، ثمّ عادوا وأسسوا الجامعات الشهيرة في باريس وأكسفورد. وبعدها، أخذوا استقلاليّتهم، وطوّر كلّ منهم على حدّة فكره الخاص، لكنّهم طوّروا انطلاقاً ممّا أخذوه من الثقافة العربية.

 ■ هل للفلسفة إجابة عن سبب الوصول إلى تلك الأحوال في العالم العربي، وهل لديها اقتراحات على الأقل؟

ما يحدّد المنطق العربي الحالي هو الجمود. لدينا قانون إيمان ديني، وأحياناً سياسي لا حياد عنه. نكبّل أنفسنا بأمور دينيّة وسياسيّة، نجهل أحياناً مصدرها أو سبب وجودها. وذلك أمر غير طبيعي، يخلو من حريّة الفكر التي هي حتماً ضروريّة. فحرية الفكر كفيلة بتحريرنا من القيود الدينيّة والسياسيّة.

 ■ ما هي نقاط فلسفتك الأساسية؟

لدي فكرة أساسيّة: لا يمكننا معرفة أي شيء إلا على مستوى الإنسان. الإنسان لا يدرك إلا ما هو إنساني، أي عالمه. إن ادعى أنّ هناك وجوداً لعالم آخر فهذا وهم وحلم. ففي الواقع، لا يوجد إلا العالم الإنساني. وإن تخيّل أي عالم آخر، أرفع أو أدنى من عالمه، فهو يصوّره على صورة عالمه. اسأل مثلاً المؤمن: «ماذا يعني الله»؟ سيعطيك إجابة نابعة من مفاهيمه الإنسانية، وكل ما سيقوله سيكون نابعاً منها. لذلك، فإنّ هنالك محوراً فكرياً هو الأنتروبولوجيا (علم الإنسان). نحن محاطون بدائرتنا الدنيويّة، والدنيا أو العالم هو، كما يقوله شوبنهاور، تصوُّري أنا (ma représentation).

لقد قمت بدراسات عدّة عن الفكر العربي. وما أردت أن أتناوله هو العقلانية في الفكر العربي الحالي. العقلانية هي طريق التحوّل الحضاري، هي النقطة المحورية في ذاك التحوّل. تحتوي العقلانية على قدرة التحول في العالم العربي، على عكس الإيمانيّة (fidéisme) أو التخيّل، وهي تساعد على التخلّص من الفكر العقائدي الديني، ومن التبعية للبلدان الغربية المستعمِرة.

 ■ ما رأيك في الربيع العربي؟

لقد انتظرناه منذ زمن بعيد. فتلك الأنظمة الاستبدادية لم يكن بوسعها الاستمرار طويلاً، كان يمكنها البقاء فقط فترة لم يبلغ فيها الشعب مستوى معيناً من الثقافة ومن الوعي الذاتي، لكي يعيش حياة سياسية طبيعية، لكن عندما يأتي الوقت ويبلغ الشعب مستوى معيّناً من الوعي الذاتي، يطرد الاستبداد والدكتاتوريّات وتؤدي الديموقراطية دورها. ما يحصل في العالم العربي طبيعي جداً، وقد آن الأوان لدخول العالم العربي إلى معترك الحياة الديموقراطية.

 ■ هل هناك مرتكزات فكرية وفلسفية للثورات العربية الحالية كتلك التي عرفناها مع ثورات التاريخ الكبرى، كالثورة الفرنسية أو البولشفية؟

أنا لا أقول إنّ الشعب كلّه يبلغ أرفع درجات الوعي الفكري. ففي أميركا أو أوروبا، يبقى الشعب شعباً، وتقوده دائماً قلّة قليلة، بعض المفكّرين والسياسيين. الشعب يتبع هؤلاء لأنّ لديه همّ العيش اليومي، وليس لديه الوقت للتفكير في كل شيء، وهو ليس قادراً على أن يدخل في تفاصيل كل الأمور. حال الشعوب العربية كحال كل شعوب العالم، لكن ما نخشاه هو أن تضع بعض الدول الإمبريالية، كالولايات المتحدة أو إسرائيل أيديها على المنطقة. يخيّل إلي أنّ أميركا وإسرائيل تريدان أن ترسما حدود هذه المنطقة على هواهما، كما حصل سابقاً بين الفرنسيين والبريطانيين على أثر سقوط الإمبراطورية العثمانية.

 ■ ماذا عن العلمانية والطائفية في لبنان؟

يتكلّمون عن العلمانية كما لو كانت الأساس، وما هي إلا جزء من ظاهرة الدنيويّة (la sécularisation). في الزمن البعيد، كان العالم مقسّماً إلى إكليروس يملك المعرفة، وعلمانيين لا يملكونها. من هذا المنطلق، كان الإكليروس هو من يصنع الثقافة على أساس نظرته الدينيّة إلى العالم، وهي مرتكزة على مقومات خمس: المعتقدات، والعبادات، والأسس الأخلاقية، والمؤسسات الاجتماعية والإمساك بالحياة السياسية. عندما تأتي الدنيويّة، تدحض تلك المقومات الخمس فلا يعود الشعب جاهلاً، إذ تثقّف؛ الثقافة تتطوّر ولا تعود ملك الإكليروس. حينها، يحصل نوع من التصالح بين العلمانيين والثقافة من جهة، وتنافس من جهة أخرى مع الإكليروس لأنّ الفريق الديني ثابت، غير متحرّك، أمّا الثقافة، ففي تطور دائم. وفي نهاية المطاف، تقول الثقافة للإكليروس، أنتم متأخرون، وهنا تحصل القطيعة. ماذا تقول عندها الثقافة لمقوّمات النظرة الدينية الخمس؟ ترى أنّ معتقدات الإيمان أسطورية وغير عقلانية، وأنّ العبادات غير فعّالة أو واقعية، وأنّ القيم الأخلاقيّة مثاليّة إلى حد لا يمكن تحقيقها، وأنّه لا حاجة إلى المؤسسات الاجتماعية الدينية لأنّ المجتمع المدني بنى مؤسساته، فما جدوى خلق مجتمع في المجتمع؟ فليكن المجتمع شاملاً، وليكن الدين جزءاً منه، لا أكثر.

أمّا في ما يتعلّق بالمقوّمة السياسية، فكان الإكليروس سابقاً يملي على العلمانيين ما عليهم صنعه في السياسة والاقتصاد والاجتماع، لكن المجتمع الدنيوي قال لهم: نحن لسنا بحاجة إليكم، فنحن نتدبّر أمورنا جيداً من دونكم. وهنا العلمانية، على هذا الصعيد، تعني نهي الإكليروس عن التدخّل باسم الدين، في الأمور السياسية والاقتصادية للمجتمع. إذاً، العلمانية تخص مقوّمة ظاهرة الدنيويّة الخامسة.

المجتمع مدني، وهو حكماً مؤلف من التنوع الإنساني الموجود فيه، لكن الجامع لهذا التنوّع عليه أن يكون الدولة العلمانية التي لا تخضع لأي دين أو عقيدة. وهي تحافظ على حريّة كل مواطن من دون أن تؤذي حريته وحرية الآخر. هذا الحل مثالي للبنان، لكنّني لا أدري إن كانت العقول ناضجة بما فيه الكفاية لقبول ذلك، وخاصةً أنّ هناك مستفيدين كثيرين من النظام الطائفي في لبنان، من رجال دين وأهل سياسة.

(صدر منذ أسابيع في فرنسا: Paul KHOURY Islam et christianisme‚ dialogue religieux et défi de la modernité‚ Coll. Pensée religieuse et philosophique arabe‚ sous la direction de Antoine FLEYFEL‚ Paris‚ L’Harmattan‚ 2011‚ 130 p).

حاوره أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 18.08.2011

Hellfest 2011, Al-Akhbar, 28.06.2011

فرنسا نزلت إلى «الجحيم»: «سكوربيونز» و«جوداس بريست» والآخرون

 11 hellfest 2011

حتى اليوم، ما زال الـ«روك ـــ ميتال» يقابل بالارتياب… حتى في عاصمة الأنوار التي شهدت قبل أيام الدورة الخامسة من «مهرجان الجحيم» أكبر تظاهرة لهذا النوع من الموسيقى في أوروبا

 «سيّدي الوزير، التنوّع الثقافي والموسيقي، ما زال إلى اليوم مخنوقاً في فرنسا الأنوار (…) أتفهّم تماماً الأشخاص الذين لا يحبّون هذه الموسيقى. لكنني أتمسّك بحق مئات الآلاف من الفرنسيين بسماعها والتمتّع بها. البارحة Led Zeppelin، واليوم Metallica،Opeth،Epica،Adagio،Mass Hysteria،Gojira، كلّها فرق موسيقية لذيذة أنصحك بالاستماع إليها. كل هؤلاء الموسيقيين يمكن مشاهدتهم في المهرجانات القادمة، وخصوصاً في الـ Hellfest، أكبر مهرجان روك ـــــ ميتال في فرنسا». هذا ما قاله النائب الفرنسي اليساري فيليب روا، متوجهاً إلى وزير الثقافة فريدريك ميتران، خلال جلسة صاخبة لمجلس النواب الفرنسي عام 2009، محتجاً على سياسيين تهجموا على الـHellfest.

 تظهر فرنسا هذا العام كأرض مختارة لموسيقى الروك ـــــ ميتال. يستقبل الـ Hellfest 80 ألفاً من عشّاق الميتال في كليسون قرب مدينة نانت، ما يجعله أحد أكبر مهرجانات الروك ـــــ ميتال في العالم، منافساً نظيره الألماني Wacken Open Air. أقيم الـ Hellfest للمرّة الأولى عام 2006، واستقبل 22 ألف شخص. وبقي عدد المشاركين يتزايد إلى أن بلغ هذا العام حدّ الاستيعاب الأقصى. يقام المهرجان سنوياً في أواخر حزيران (يونيو) ويستمرّ ثلاثة أيام، ويضم مئة فرقة تتركز موسيقاها على أنواع الميتال المختلفة، كالـ Heavy، والـ Thrash، والـ Black، والـ Death.

 وصلنا إلى أرض المهرجان في بعد ظهر نهار الجمعة 17 حزيران. المكان مكتظ بالأشخاص المرتدين اللون الأسود والملابس الجلدية المزيّنة بأسماء فرقهم المفضّلة وبمعادن متنوّعة أحيانا. النساء مثيرات وما أجملهنّ… بعد المرور على المدخل الرئيسي لإبراز بطاقة الدخول، وضع الموظّف حول معصمي إسوارا يثبت حقي بالدخول، ويخولّني التنقّل في أرض المهرجان الكبيرة. ولكن قبل التوجّه إلى المسارح الموسيقية، كان علينا نصب خيمتنا. قطع أرض كبيرة خُصّصت لنصب ألاف الخيم التي لم يتردّد بعض أصحابها بغرس أعلام بلدانهم بقربها. كل شيء منظّم: الحمّامات، الدخول إلى المسارح، بيع السلع والمشروبات والأطعمة، مراكز الفرز البيئي… نظافة القسم الأكبر من أرض المهرجان ملفتة، وذلك يعود إلى الفرز البيئي الذي تقوم به الأغلبية الساحقة من المشاركين. يشجّع على ذلك منظّمو المهرجان عبر إبدالهم الزجاجات الفارغة والكبسولات بأكواب البيرة… أمّا الأمر الآخر الملفت، فهو فرح الحاضرين، وطبعهم المرح، وتهذيبهم على عكس ما يمكن لمناهضي هذه الموسيقى اعتقاده. فلم يحصل في ثلاثة أيّام أيّ حادث يذكر، على الرغم من أعداد المشاركين الهائلة وصخب الموسيقى وعنفها أحيانا.

 هناك أربعة مسارح موسيقية: الMainstage 01، والMainstage 02، والRock Hard Tent، والTerrorizer Tent، يختار المشارك أحدها بحسب الفريق الذي يريد سماعه. يبدأ الغناء في تمام الساعة العاشرة صباحا، وينتهي حوالي الساعة الثانية بعد نصف الليل. ولكن حذار لمن يعتقد أنّ بامكانه إراحة أذنيه بعد ذلك. فالMetal Corner، حيث يوجد الHell Bar (المكان الذي نتناول فيه طعام الفطور صباحا ونحتسي به البيرة طوال النهار)، يحتوى على مسرح موسيقي، تستعمله فرق الميتال الفتيّة إلى الساعة الرابعة صباحا أو أكثر. بالقرب من المسارح الموسيقية الأربعة مطاعم كثيرة، ومساحات خاصّة للقاءات بين بعض الفرق الموسيقيّة ومحبّيهم، للإمضاءات والصور. تتكلّل فرحة المشاركين بالسوق الكبير Extrem Market الذي يقتظ بأكثر من مئة تاجر أتوا من بلدان مختلفة لبيع الملابس الخاصة بموسيقى الميتال ومنها للأطفال، والآلات الموسيقيّة والسيديهات، وأنواع متنوّعة جدّا من أدوات الزينة النادر وجودها.

 يستطيع المشارك في مهرجان هذه السنة رؤية فرق روك – ميتال عريقة، تغنّي منذ عشرات السنين، مثلUFO،Ozzy Osbourne،Iggy and the Stooges،Mr. Big، Morbid Angel، Dark Tranquility، Therion،Kreator… وأيضا فرقا موسيقيّة أحدث نسبيّا، مثل Opeth، Cradle of Filth،Black Label Society،Anathema،In Flames، Apocalyptica… ولكن الفريقان الذان كان يجب سماعهما حتما هذه السنة هما الScorpions والJudas Priest، ليس فقط لأجل الموسيقى الرائعة والفريدة والأسطورية التي يصنعانها، ولكن أيضا لأنّهما يقومان بآخر حفلاتهما الموسيقيّة قبل التقاعد، بعد حوالي أربعين عاما من العطاء المتواصل والشيّق. الفريقان على المسرح مهولان. فأنت ترى رجالا ستّينيّون يقفزون في كل الإتجّاهات كما لو كان عمرهم عشرين… يلهبون الجمهور الذي يبدو في حالة نشوة… فترى دموع البعض عندما يغنّي الScorpions، Still Loving You، أو Holiday، وتشهد على التدافع الجنوني والHead Banging العنيف عندما يغنّي الJudas Priest،Breaking The Law،Judas Rising، أو Hellrider…

 خلال المهرجان، كان لافتاً حضور Orphaned Land، فرقة إسرائيلية يُقال عنها إنها يسارية ومناصرة للقضية الفلسطينية ومبشّرة بالسلام بين المسلمين واليهود. لم يتردّد المغنّي المرتدي زيّاً شرقيّاً بالتذكير بذلك، قائلاً لجمهوره الذي ضمّ عرباً أيضاً إنّه داعية سلام، وإنّ ما فرّقته السياسة تجمعه الموسيقى! كانت هناك أيضاً راقصة شرقية قال عنها المغني إنّها لبنانية. وفي آخر أغنيّة Norra El Norra التي تجمع الموسيقى العربية بالميتال والكلمات العبرية، رفعت الراقصة العلم اللبناني، ورفع المغنّي العلم الإسرائيلي وضمّه إلى اللبناني، داعياً للسلام. يا ليت النيات الحسنة كافية للقضية الفلسطينية وتحرير اليهودية من الوباء الصهيوني.

 صلبان، وشياطين، وجهنّم، وشعارات وثنيّة، وثياب مثيرة… كلّها رموز يصعب فهمها لمن لم يدرس رمزيّة موسيقى الميتال، ولمن اعتاد تعليب الحقيقة الإنسانيّة والدينية والثقافية في نظرته الضيّقة للوجود والإنسان. كانت لدينا عيّنات من هذه النظرات في لبنان وما زالت، يوم عُدّ محبّو الميتال عبدةً للشيطان، أو أعداءً لله والدين… كل هذه الاعتبارات نابعة من جهل مؤلم لحقيقة الأمور. الغالبية الساحقة من محبّي هذه الموسيقى متنوعو التوجهات والمشارب. وما رموز الشيطان والجحيم، اللذين لا يؤمن بوجودهما أحد تقريباً من محبّي الميتال، إلا صور فنيّة للتعبير عن التمايز ورفض تقاليد إنسانية ودينية معيّنة تثقل الإنسان.

 لم يستطع باتريك روا حضور المهرجان. توفّي في 2 أيّار (مايو) الماضي عن 53 عاماً. ولم يتوانَ الـ Hellfest بتكريم ذكراه. بعد حفلة الـ«سكوربيونز» منتصف ليل السبت، تجمّع عشرات الآلاف في باحة المهرجان وأنشدوا معاً أغنية: For Those About To Rock We Salute You.

 ما هي هذه الموسيقى الصاخبة والعنيفة المسماة ميتال؟ يصعب إعطاء إجابة؛ لأنّ هذه الموسيقى كالحب، لا يفقهها إلا من اختبرها وعشقها. ونذكّر هنا بالإجابة التي أعطاها الفيلم الوثائقي العلمي الرائع Metal :A Headbanger’s Journey (2005): «إنّ الميتال هو قوّة روحية، هو السبيل المباشرة التي يتبعها محبّو هذه الموسيقى لملاقاة الله…».

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 28.06.2011

Spinoza hôte de la Syrie, Al-Akhbar, 13.01.2011

سبينوزا يحلّ ضيفاً على سوريا

  10 Spinoza

الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632 ــ 1677) ليس غريباً عن شرقنا. فهو، أولاً، من أصل يهودي. وحتى لو حُرم ورذل من أبناء ديانته، واتهم بالتجديف والإلحاد، يبقى فكره الفلسفي والتاريخي النقدي ملتصقاً بالعالم السامي. وهو، ثانياً، قُرئ في العالم العربي المشرقي والمغربي، وقد عرّبت كتاباته.

لا عجب في أن يهتم مفكرون عرب بفكر سبينوزا. فالإشكاليات اللاهوتية السياسية التي يتناولها، لا تزال آنية في تضاعيف معضلات شرقنا الدينية والسياسية والطائفية، حيث صاغ الفيلسوف المتمرد أنظومة فكرية فلسفية علمانية، تحرص على احترام الدين ووجوده، مع تناولها له من زاوية نقدية متقدمة جداً، ومع إخضاعه التام للسلطة السياسية العلمانية. معضلة علاقة الدين بالسياسة شائكة في العالم العربي، إن كان من جهة تطبيق الشريعة الإسلامية، أو من جهة بنية النظام الطائفي. ولا شكّ أنّ المطّلع على السياق الديني والسياسي الأوروبي، الذي عاش فيه سبينوزا في القرن السابع عشر، يجد روابط قربى كثيرة مع أحوال اللاهوت والسياسة في العالم العربي. فالفكر الديني آنذاك كان ينادي بهيمنته على السياسة، وكان يؤسس حجته على «المقدّس»، أي على ما هو خاص بالله، خارج عن التاريخ، ومعطى عبر الوحي للناس، كشريعة دينية تسوس المدينة. أحوال الكثير من الأنظمة السياسية والأنظومات الفكرية في العالم العربي مشابهة لذلك حالياً، إذ يُطبّق أو يُنادى بمنطق يُخضع النظام السياسي لمحتويات فقهية أو لاهوتية، ويجري إخضاع «المدني» لـ«المقدّس». لذلك، تبدو فلسفة سبينوزا واقعية وكاملة المعنى في سياقنا الحالي. ولكن، لا شكّ أنّ صعوبة فكر سبينوزا وقلّة اهتمام أهل العروبة بالفكر وارتباط «المقدّس» بالعنف، لها الوقع الأكبر على التناول، الخفر جداً، لفكر الفيلسوف في العالم العربي.

كم كانت مفاجأتي سارّة عندما وقعت صدفة على كتاب الدكتور منذر شيباني، «سبينوزا واللاهوت»، وقد صدر عن منشورات وزارة الثقافة ـــــ الهيئة العامة السورية للكتاب، 2009. كلّ عمل فكري يبقى مرتبطاً بالقرائن التاريخية والاجتماعية والسياسية التي يولد في كنفها، لذلك، لا بدّ من التساؤل عن معنى حلول سبينوزا ضيفاً على سوريا في هذه المرحلة التاريخية بالذات، لكن قبل محاولة الإجابة عن هذا التساؤل، لا بدّ من عرض محتوى كتاب شيباني، وهو خير مرشد لفكر سبينوزا، الناقد للدين.

كنّا نتمنّى أن يأتينا الكاتب بتحليل جلي، ولو مقتضباً، للسياق العربي على ضوء الفلسفة السبينوزية، لكن ربّما دفعته اعتبارات عدّة، منها حساسية هذا الموضوع، الذي محوره النقد الديني، إلى الإعراض عن هذا الأمر. على الرغم من ذلك، يقدّم الكتاب معطيات فلسفية سياسية ومحورية للقارئ العربي، الذي يبحث عن سبل فكرية ناقدة لفهم واقعه الراهن. يبغي شيباني توضيح إلحاد سبينوزا عبر درس موقفه من علم اللاهوت، ولهذه الدراسة علاقة مع قرائن العالم العربي الحالية: «المأزق الحضاري الذي عاشه سبينوزا، الذي يتبدّى من خلال نصوصه وحياته، ربّما يقترب بشكل أو بآخر مما نعيشه راهناً، مع حفظ الخصوصيات التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية». يبدو الانتقال من حضارة النص اللاهوتي إلى القانون العلمي سبيلاً لحل هذا المأزق في الفكر السبينوزي. يوضح شيباني ذلك عبر أربعة فصول.

يتناول الفصل الأول الظروف التاريخية التي أدّت، في عصر النهصة، إلى ولادة النقد اللاهوتي عموماً، والنقد السبينوزي خصوصاً. ويذكر منها التغيرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ونشاط الطبقة البرجوازية والفكر الإنسانوي. ويشير الكاتب إلى أهمية العامل الجغرافي الذي أسهم في توسيع آفاق الإنسان الذي اكتشف أنّه ينتمي إلى عالم أوسع. أسهم ذلك في زعزعة مطلقية المسيحية التي أيقنت أنّها ديانة قارة صغيرة (أوروبا). أضف إلى ذلك جواً من الحرية الفكرية والفلسفية.

يتكلم الفصل الثاني عن نقد سبينوزا للنص المقدس، وهو نقد قائم على ثلاثة محاور: النقد التاريخي، النقد الفيلولوجي (فقه اللغة)، والنقد البنيوي. الفصل الثالث يتناول النقد السبينوزي للإيديولوجية المبنية على «المقدّس». ففيما يقدّس أتباع هذا المنطق، العالم، لأسباب تعود إلى الهيمنة السياسية، ويربطون كلّ فعل بالتقوى الدينية، يعيد سبينوزا الإنسان إلى مكانته «الطبيعية».

أمّا الفصل الأخير، فيتناول علاقة الكتاب المقدّس بالحقيقة. فيرى سبينوزا أنّه لا حقيقة علمية في الكتاب المقدّس، بل حقيقة أخلاقية وأسس للتعايش الإنساني المسالم. لذلك هو يرفض المفاهيم اللاهوتية الأساسية كالوحي أو العناية أو المشيئة الإلهية، ويرى أنّ الأنظومات اللاهوتية ما هي إلّا بناء ناتج من مخيلة الأنبياء الخصبة.

تستحثّ فلسفة سبينوزا الناقدة التفكّر في أوضاع الدينيّات والسياسيّات في الشرق العربي، وتدفع الباحث إلى طرح تساؤلات تتخطّى إطار الوحي اليهودي والمسيحي وتصيب الإسلام، وما هو مقدّس لديه، لكن، إن كان المفكّرون السبينوزيون وأعداؤهم قد ألفوا فكرة نقد سبينوزا لليهودية والمسيحية، ويمكن هذا النقد أن يُعنى بالصهيونية أو بالنظام الطائفي اللبناني، فإنّ عالم الفكر لم يألف بعدُ تطبيق هذا النقد على الوحي القرآني. ولهذا المنسلك حقول خصبة جداً وآفاق عسيرة حقاً. فطرح مسائل النقد الفيلولوجي للقرآن والاستقصاء التاريخي عن جذور الشريعة الإسلامية والحيز الإيديولوجي للديانة الإسلامية وانصياع الدين لحكم مدني لاديني، وغيرها من الإشكاليات السبينوزية، يمكنها أن تكون مصدر توترات كثيرة. لذلك، نحن لا نظنّ أن نشر كتاب عن النقد اللاهوتي السبينوزي في سوريا هدفه التأسيس لمرحلة نقد شاملة للأنظومة الدينية في الشرق، لكن، لا بد من الإشارة إلى الأحداث الأخيرة في سوريا، حيث النظام يقوم بإجراءات لتعزيز العلمانية وللحد من المظاهر الدينية لعلّها تحتوي بعض النزعات الأصولية. فقد قرأنا أنّ الحكومة السورية اتخذت عدداً من القرارات التي طاولت سلوكيات دينية متعددة، كمنع النقاب في الجامعة، واتخاذ إجراءات بحق المعلمات المنقبات التابعات لوزارة التعليم، وتنظيم الارتياد إلى الجوامع ومنع الاعتكاف فيها، وتنظيم المآدب الرمضانية، والتأكيد على ممارسة الشعائر الدينية في دور العبادة فقط، ما يعني منع وجود مصلى في المطاعم وممارسة الطقوس الدينية في أماكن أخرى، ومنع إبراز الأفراد للشعارات التي توحي بانتمائهم الديني، مهما كان هذا الانتماء. تدفعنا، كلّ هذه المعطيات، إلى الاعتقاد بأنّ سبينوزا لم يحل صدفة ضيفاً على سوريا، وأنّ التطرّق إلى فكره النقدي، في هذه المرحلة بالذات، له دلالات لم ننته بعدُ من قياس كل أبعادها.

 هل يحل سبينوزا ضيفاً على لبنان وعلى كل الشرق؟ من العسير دعوة الفيلسوف إلى ديار تأنس، يوماً بعد يوم، معاشرة التطرّف الديني والأصوليات، وتستطيب مسامرة الطائفية بتجلياتها المتعددة، لكن، إن حلّ ضيفاً أو إن بقي غريباً، تبقى تساؤلاته مجدية ونصب كل معضلات الشرق العربي الدينية السياسية.

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 13.01.2011

Le fils et le vicaire, l’identité humaine dans la laïcité et dans la religion, Al-Akhbar, 01.12.2010

«بين الابن والخليفة»: الهويّة الإنسانيّة في الدين والعلمانيّة

 09 ibn khalifa

صدر حديثاً عن «مركز الأبحاث في الحوار المسيحي الإسلامي» كتاب للدكتور مشير باسيل عون، بعنوان «بين الابن والخليفة، الإنسان في تصورات المسيحية والإسلام» (منشورات المكتبة البوليسية ـ 2010). يروم هذا البحث إلقاء الضوء على مقاربة جديدة في أدبيات الحوار المسيحي الإسلامي، أعني الاستقصاء الأنتروبولوجي عن العناصر الأساسية المكونة للهوية الإنسانية، بروافدها المسيحية والإسلامية والعلمانية. يندرج هذا الإسهام في إطار كتابات عون عن الحوار بين الأديان، نذكر منها «بين المسيحية والإسلام، بحث في المفاهيم الأساسية» (المكتبة البوليسية، 1999) و«النور والمصابيح، التعددية الدينية في جرأة المساءلة اللاهوتية المسيحية» (جامعة البلمند، 2008).

 لا ينحصر هذا البحث في إطار المساءلة العلمية الخالصة، إذ يقدّم لقارئه معطيات تساهم في فهم الواقع الاجتماعي العربي بتجلّياته السياسية والدينية والاقتصادية. فتصورات الأنظومتين الدينيتين المسيحية والإسلامية لهوية الإنسان لها الأثر البالغ في قرائن تصرفات أهل الإيمان التاريخية والثقافية. تنعقد هذه الهوية في المسيحية على مقولة «الابن» وفي الإسلام على مقولة «الخليفة»، وبين المقولتين «شَبَه صريح» و«فارق خطير» لهما أثر مباشر على أنماط تدبّر شؤون المدينة الإنسانية.

 لهذه المقارنة خلفيات عدّة، تثني القارئ عن الإذعان بحلول سهلة تؤطّر المفاهيم في نظرات أحادية للأمور. على المستوى الثقافي، يجب تجنب اختصار الثقافة العربية بالإسلام أو بمعضلاته الآنية والحضارة الغربية بالمسيحية أو بالعلمانية. إذ إنّ واقع تلاقح الحضارات يحثّ على التبصّر الحصيف بلطائف التباينات الحضارية التاريخية. أمّا على صعيد تناول منطق الأديان التوحيدية، فيجب التحرّي بأمانة عن تحديدها للهوية الإنسانية المنعقدة على مفهوم الكشف الإلهي الذي يبلّغ الإنسان حقيقة الله وحقيقة ذاته. يرفض عون منطق الاستئثار بالحقيقة ونبذ الغيرية، فيدعو إلى التعددية الدينية التي تقوم على التمييز بين الذات الإلهية وما ينكشف عن هذه الذات عبر الاختبارات الثقافية والإنسانية: «فالله أكبر من جميع ما ينسجه الناس في مداركهم اللاهوتية».

 عمق التصوّرين الأنتروبولوجيين مبني على تعاليم الديانتين الأساسية. مقولتا الرؤيا المسيحية للكون وللوجود وللتاريخ هما الظهور الإلهي وتألّه الإنسان. بظهوره للإنسان، يكشف الله عن ذاته كواحد في الطبيعة ومثلث في الأقانيم. ويبلغ الكشف ذروته في المسيحية عبر تجسد الابن، الذي يؤلّه الإنسان ويجعله ابناً وارثاً. أمّا الإسلام، فإنّه ينظر إلى الله نظرة التسامي المطلق ويرد كلّ شيء إلى الوحدة: وحدانية الله الأوحد، ووحدة الإيمان والخليقة والجماعة. هذا يضع الله والإنسان في وضعية الخالق والمخلوق، ويستبعد كلّ علاقة قربى بينهما. فلا تألّه للإنسان واشتراك في الحياة الإلهية التي يعجز عن تصورها، بل هداية إلى الصراط المستقيم. وعليه، لا بلاغ عن الله إلا من لدن الله، كلمته الأزلية، القرآن. يظهر ذلك الإنسان كأداة في يد الله، خاضعاً له خضوعاً تاماً. وفيما يكشف الله في المسيحية عن ذاته الإلهية عبر ابنه، يكشف في الإسلام فقط عن إرادته، عبر القرآن.

 لهذه المفارقات التأسيسية تأثير مباشر على واقع تدبر شوون المدينة. فالله يعهد إلى الابن، في المسيحية، «استنباط الشرائع والسنن والأحكام من مصدر النور الإلهي المبثوث في مطاوي الضمير الإنساني». فتسمح الحرية المسيحية للإنسان بدائرة وجود خاص، كما أنّ الثالوث يتيح لكلّ من أقانيمه بدائرة وجود خاص. أمّا الإسلام، فيعتقد أنّ «من مسؤولية الاستخلاف تنبثق ضرورة الأمانة في رعاية الخليقة وفاقاً لسنن الله». لذلك، لا يشترك الإنسان في الحياة الإلهية، بل يبلغ، كخليفة، المشيئة الإلهية، ما يجعل حريته «مشروطة بالهداية القرآنية». سياسياً، تترجم تباينات النظرتين بإنسان المسيحية الذي يشترع، على ضوء إيمانه، القوانين التي تلائمه، كابن شريك في الخلق، وفي الإسلام، بإنسان عليه أن يتبع ما تتضمنه الشريعة من تدبير لشؤون المدينة. لطائف هذه التباينات شديدة الأهمية لفهم سلوك الديانتين السياسي، لأنّ «تصوّر الهوية الإنسانية شرط أساسي لتصوّر هوية الفعل الإنساني».

يتابع عون مقارنته الأنتروبولوجية بالتكلم على أسس مشتركة تجمع الديانتين، وأهمها مخلوقية الإنسان. ولكن الاختلاف الأنتروبولوجي يؤول إلى نظرتين مختلفتين في ماهية الأخير. فالمسيحية تقول بارتباطه بالله ارتباط الغصن بالكرمة، وبخلاص يؤلّه، وبنعمة المسيح التي تبرر الخاطئ من خارج الدائرة التاريخية. أمّا الإسلام، فينظر إلى علاقة الإنسان بالله علاقة الجابل بجابله، وينظر إلى الإنسان المهدي كإنسان التقيّد بالهدى الإلهي القرآني من داخل التاريخ. وإن قالت الديانتان بانفتاح الإنسان على الحق الإلهي، يبقى الفرق كبيراً بين علاقة قائمة على المحبة والاتحاد وعلاقة قائمة على الرحمة والطاعة.

  تبلغ المقارنة ذروتها عند تناول مسألة الحرية، واليقين «الأقوى المبثوث في مطاوي هذا الكتاب يعتمد الحرية كأصل من أصول الاختلاف في النظرة إلى الفعل الإنساني». ففيما تظهر الحرية في المسيحية كموقف الإيمان الحر، هي في الإسلام تسليم واثق للمشيئة الإلهية وسلوك في سبيل الرشد. تساعد القراءة الثقافية الدينية على فهم معنى الحرية العميق، إذ إنّ اللغة العربية تحددها كعبادة لله، والغرب يفهمها كقائمة على الإرادة الذاتية. أضف إلى ذلك أنّ الإيمان في الإسلام أمانة وفي المسيحية إبداع. لهذا التباين أثر مباشر على اختلاف العقل التشريعي الإسلامي المبني على القرآن عن العقل التشريعي المسيحي المبني على استقلالية الشؤون الزمنية وعلى قيمة الواقع البشري الذاتية. ينتج من ذلك حرص في المجتمعات الإسلامية، من قبل الخليفة، على حقوق الله وأحكامه، وحرص في المجتمعات المسيحية، على حرية الابن. هذا لا يعني أنّ الإسلام لا يراعي مسألة الحرية والمسيحية لا تراعي مسألة حقوق الله. ولكن التشريع في المسيحية مسؤولية ضميرية على الابن الوارث، وفي الإسلام، هو مبني على الشريعة القرآنية. لذلك مُيّز في المسيحية بين الحقلين المدني والديني.

 لا تستقيم هذه المقارنة إلا بإسهام الفكر العلماني الذي يغني الإشكالية ويرى أصل الإنسان في ذاته ويبعد كلّ معنى خارج عن التاريخ. يساعد هذا الإسهام على التمييز بين المسيحية والإسلام، حيث الحرية تابعة للمقولة الأصلية التي هي الحقيقة الإلهية أو الحق، وبين الفكر العلماني المحايد، حيث الحرية هي المقولة الأصلية، والحق والحقيقة هما المقولتان التابعتان. يتناول الفصل الأخير من الكتاب مسألة إمكان التلاقي بين هذه النظرات الثلاث. تتخطى المقارنة حدود الإسلام والمسيحية، وتصبح المقارنة ثلاثية تبحث عن إمكانات إسهام الأنظومات المختلفة في «تطلب الأمثل للإنسان». يرفض عون اعتبار الاختلاف في التصوّر الأنتروبولوجي كطريق مسدود، بل يعتبره دلالة على «التنوّع الأصلي اللصيق بالطبيعة البشرية». الأرضية المشتركة واضحة المعالم: «للإنسان كرامة كيانية لا يجوز التفريط بها على وجه الإطلاق». الإسلام والمسيحية يضعان هذه الكرامة في دائرة الإلهيات، أمّا العلمانية فتضعها في ذات الإنسان. والأمر سيان في مسألة الحرية. ولكن في كل الحالات تبقى مسؤولية الإنسان كبيرة وإن اختلفت مصادر الأصول الأخلاقية. لذلك، يجب أن تتعاون الأنظومات الثلاث للنضال في سبيل الإنسان وأن تعتبر «الاختلاف الفكري أصلاً من أصول ثراء الإرث الحضاري الإنساني الكوني»، وأن تجد قيماً مشتركة وفعلاً سياسياً يسهمان في سلام الحضارات والتعدد الكوني. يقترح المؤلّف مبادئ لهذا النضال المشترك ويحددها: «قيم المساواة والحرية والأخوة والعدل والسلام والتكافل».

 ينتظر مشير عون من الفكر العلماني المحايد أن يكون فسحة لقاء للنظرات الأنتروبولوجية المختلفة، وخاصة أنّه «الأحرص على الحياد في تصوّر الهويّة الإنسانيّة». فهل تقبل الأنظومات الدينية بأن تسهم الأنظومة العلمانية في فهمها لعمق ذاتها؟

(تعقد «الحركة الثقافية ـــ أنطلياس» ندوة في التاسع من كانون الأول حول هذا الكتاب، يناقشه فيها المطران جورج خضر والدكتور وجيه قانصو)

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 01.12.2010

Arrêtons de nous lamenter sur notre sort, Al-Akhbar, 23.10.2010

مسيحيّو لبنان والشرق: كفانا بكاءً على الأطلال

 08 synode rome

يضيق بي المقام هنا إن وددت التكلّم على كل محاولات استنهاض مسيحيي لبنان والشرق وإنقاذهم. فالمؤتمرات والندوات والكتابات والتجمعات واللقاءات والخلوات والتحركات، لا تني استثارة أوضاع المسيحية المشرقية وأفولها أو تراجع حضورها في كثير من الأقطار العربية. فالتقاسيم تتنوع والنغمة واحدة: خطر الزوال، اضمحلال الشهادة، إعادة تفعيل الدور، النزف الديموغرافي، الإحصاءات العددية، تضاؤل الإسهام الحضاري والثقافي، أخطار الأصوليات المتنامية، قرائن المصالح الإقليمية والدولية. لا شك بأن الكثير من هذه المعطيات تعبّر عن واقع أليم معيش. ولا ريب أن البحث العلمي الحصيف ضروري للتبصّر في أنجع سبل التلاقي الإنساني والعيش في المدينة. ولكن المشكلة هي في طريقة تناول إشكالية الحضور المسيحي العربي، وفي الأكثرية الساحقة من المحاولات التي ينتهي غالباً دورها مع انتهاء آخر محاضرة، فتوضع النصوص على رفّ مكتظّ بالكتب والملفات والغبار.

 يندرج السينودس المنعقد الآن في حاضرة الفاتيكان من ضمن المحاولات الرامية إلى تحسين أوضاع المسيحيين والمسيحية في المشرق. لا شكّ أنّ عدداً من ذوي النيّات الحسنة والقدرات العلمية والمزايا الإنسانية والأخلاق الإنجيلية موجودون في صفوف هذا الجمع الإكليريكي الذي يفتقر أشد الافتقار إلى حضور النساء والعلمانيين والأشخاص المتزوجين، ولا ريب أنّ بعض المداخلات والأفكار لا تخلو من الحكمة والقراءة الفذة للواقع. ولكن الكثير من المؤشرات تحثّ المراقب على عدم انتظار أي نتيجة عملية ومحسوسة من هذا السينودس. فنحن بعيدون كامل البعد عن واقع سينودسات تحدث تغيرات كبيرة، كذلك الذي انعقد في أميركا الجنوبية في مدينة مدلين عام 1968 والذي ولد من رحمه لاهوت التحرير الذي واجه الفقر واللاعدالة الاجتماعية ووقف بوجه الرأسمالية والروح الاستعمارية الحديثة للغرب. ولربّما تكون هذه أول إخفاقات هذا السينودس الفاتيكاني في أنّ همّه يصيب بالأساس أحوال فئة مذهبية واحدة من المجتمع العربي، وكأنّ الفقر، والصهيونية (وهي لم تفرّق بين مسلم ومسيحي فلسطيني)، والإرهاب (وقد تأذّى منه المسلمون أكثر من المسيحيين في العراق)، والسياسة الغربية (وقد رأينا كيف حافظت الدولة المسيحية العظمى، الولايات المتحدة، على المسيحيين في العراق)، والظلم الاجتماعي، والحالة الاقتصادية المتردية، والهجرة، والجوع، والكثير من العوامل الأخرى التي تغرّب الإنسان عن ذاته، وكأنّ كل تلك تميّز بين مسيحي ومسلم. فمن يجب إنقاذه في الشرق العربي؟ أهو المسيحي والطائفة أم هو الإنسان؟ وهل أخطار الأصوليات الدينية والهجرة أعظم شأناً من أخطار الجهل والانطواء على الذات والتخلف؟ وعليه، فإنّ أسباباً كثيرة تدفع بنا إلى الشك بقدرة هذا السينودس على الإتيان بنتائج عملية، نذكر منها ثلاثاً:

 أوّلاً، من الصعب الإذعان بفعالية مبادرة كنسية تخص مسيحيي المشرق، وتنعقد على نحو أحادي في ديار الكنيسة اللاتينية في الفاتيكان، وخارجاً عن الشرق. ربّما أراد هذا العهد البابوي أنّ يؤكد، من ضمن سياسته التقليدية، محورية «خلافة بطرس» حتى في أرض العرب، ولكن من النافل التصديق أن سينودساً لا يضم كل المسيحيين العرب، وأغلبهم من غير الكاثوليك… سينودساً لا يقوم على أرضنا المتألمّة، يمكنه أن يأتي بحلّ ما. فمكانة «كرسي بطرس» ما زالت موضع إشكاليات كبيرة لدى الكنائس الأرثوذكسية، وهي تمثّل الأغلبية في الشرق الأوسط. فعدد من مسؤولي هذه الكنائس يتساءلون كيف يمكن سلطةً كنسيةً كانت مسؤولة عن إحداث الانشقاقات في كل الكنائس الشرقية وإضعافها، أن تضطلع بحل ما، وهي ما زالت تعتبر نفسها كالتجسيد الكامل الوحيد لكنيسة المسيح.

 ثانياً، كيف يمكن أن تستقيم أوضاع المسيحيين المشرقيين وهم لا يجلسون معاً ولا يبحثون عن سبل الاستقامة. هل بلغ قسط منهم حالة استقالة وجودية متقدمة تقودهم لشلل ذاتي يوجب قيام مبادرات غربية لاستنهاضهم؟ هل كُتب على أبناء هذه الأرض أن يُعتبروا أو أن يَعتبروا أنفسهم قاصرين وموصى عليهم حتى في أمورهم الدينية؟ إن أراد المسيحيّون المشرقيون الشهادة والدور والوجود الحر، فالحلول المناسبة ليست موجودة في روما، ولكن في اجتماع كل الكنائس في الشرق، من دون استعلاء أي واحدة على الأخرى، وبروح وطنية وإنسانية، بعيداً عن الطائفية والتقوقع الديني. ربّ قائل إن أحوال مجلس كنائس الشرق الأوسط سيّئة جداً، وإنّ العلاقات بين بعض الكنائس متوترة، وهذا كلام فيه نظر. ولكن إن أرادت الكنيسة الكاثوليكية أن تضطلع بدور إنقاذي في الشرق، فهنا فرصتها، إذ إنّ الأمين العام المقبل لمجلس كنائس الشرق الأوسط عليه أن يكون، بحسب قانون المداورة، كاثوليكياً. فالتحدي الحقيقي للكنيسة الكاثولكية ليس في روما حيث كل المجتمعين كاثوليك أو تقريباً، ولكن في أرض العرب، حيث اجتماع كل الكنائس وأغلبها رسولية وعريقة، أقلّه بقدر عراقة كنيسة روما.

 ثالثاً، إنّ الغائب الأكبر الوحيد ليس فقط الشريك المسيحي غير الكاثوليكي، ولكن أيضا الشريك المسلم. فوجود بعض المسلمين الحسني النية في السينودس لا يعني حضور الفريق الذي يتشارك معه المسيحيون المشرقيون الحياة والمصير. فهل من آفاق للمسيحيين في الشرق من دون المسلمين؟ وهل من حل ممكن لمعضلات المسيحية العربية من دون أن يشارك المسلم في صياغة لهذا الحل؟ لا جرم أنّ غياب المسيحيين غير الكاثوليك وغياب المسلمين عن اجتماع يخصّ المسيحيين المشرقيين هو خير مؤشر على أنّ هذا السينودس لن يكون أكثر من أنشودة جميلة تنشد، وتفسح المجال بعد قرع أوتارها إلى صمت الواقع.

 لن تنقذ روما مسيحيي الشرق، وقد رأينا النتائج غير المرضية لزيارة أسقف روما في العام المنصرم على أحوال مسيحيي الأراضي المقدسة الذين ما زالوا يعانون، كما إخوتهم المسلمون، من تصرفات الاحتلال الصهيوني. ولن يُنقذ الغربُ مسيحيي الشرق، وهو مسؤول عن الكثير من ويلاتهم. لن ينقذ المسيحيين في الشرق إلا المسيحيون الشرقيون أنفسهم، عندما سيجلسون معاً، في الشرق، مع شركائهم المسلمين والعلمانيين، بروح مسكونية وحوارية. وحينها، عندما يكفون عن البكاء على الأطلال، وعندما يلتزمون كل قضايا الإنسان العربي الحقة، بعيداً عن التمييز الديني والطائفي، ونصرة للفقير وللمظلوم، أياً كان، وبحثاً عن الإنماء الاجتماعي، والحضور الثقافي، والالتزام الوطني العلماني، حينها سيضحي وجودهم ضرورة حياة للشرق، حينها سيكونون فعلاً كما يريدهم سيّدهم، ملحاً للأرض ونوراً للعالم.

أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 23.10.2010

La tendance laïque dans la pensée chrétienne libanaise (7), Conclusion : la laïcité à venir ? Al-Akhbar, 18.10.2010

النزعة العلمانية في الفكر المسيحي في لبنان  7

خاتمة: العلمانية الآتية؟

 07 laicite

انعقدت سلسلة مقالات «العلمانية في الفكر المسيحي في لبنان» على المساهمة في البحث حول المسألة العلمانية في لبنان عبر إلقاء الضوء على هذا المفهوم من زاوية الفكر المسيحي الديني في لبنان. وقد خلص هذا البحث إلى استنباط ميل هذا الفكر الواضح إلى العلمانية، نزعة تتفاوت بين الإذعان الخفر بتبني شكل من أشكال هذا المفهوم والنضال من أجل تطبيقه الشامل. يمكننا تصنيف العلمانية لدى المفكرين الذين تطرّقنا إلى فكرهم على الشكل الآتي: ميشال الحايك، الوطن اللاديني؛ يواكيم مبارك، النضال العربي الإنسانوي العلماني؛ جورج خضر، الدولة المدنية؛ مشير عون، العلمانية المعتدلة ذات الحياد المطلق؛ بولس الخوري، العلمانية المعتدلة الناقدة؛ غريغوار حداد، العلمانية الشاملة. من اللافت للنظر أنّ أشدّ النزعات العلمانيّة موجودة عند المفكرين من طائفة الروم الملكيين الكاثوليك (عون، الخوري وحداد)، أما النزعة الخفرة، فهي موجودة عند المفكرين الموارنة (حايك ومبارك). فيما نجد نزعة معتدلة في الطائفة الإنطاكية الأرثوذكسية (خضر).

 يجتمع هؤلاء المفكرون على أفكار عدّة ومن أهمها: نبذ الطائفية ومحاربتها والتمييز بين الدينيّات والسياسيّات. فجلي أنّ الفكر الديني المسيحي اللبناني يرفض أيّ ضرب من ضروب الدمج بين الدين والسياسة. ولكن مفكّرينا يتمايزون بنظراتهم إلى تطبيق العلمانية على صعيد النظام اللبناني. ففيما ينادي عون والخوري وحداد بإلغاء الطائفية السياسية، نلمس أحياناً عند الحايك ومبارك، وبوضوح عند خضر نوعاً من القبول بمشاركة الطوائف في الحكم ضمانةً للوجود المسيحي. ولربّما أثّر تمثيل الطوائف في الحكم بشكل ما على هذه النزعات: فالميل الخفر إلى العلمانية موجود عند الموارنة، وهم ينعمون بأعلى المراكز في الدولة اللبنانية. أمّا طائفة الروم الملكيين، فامتيازاتها أقل شأناً من امتيازات الموارنة والروم الأرثوذكس الذين ينعمون بثاني أهم المواقع السياسية بين الطوائف المسيحيّة. يبقى كل ذلك من باب الفرضيّة، وهذه الفرضية اللافتة ثانويّة لأنّه في كل الأحوال يبقى مغزى هذه النزعة العلمانيّة: تغيير سلوك سياسي ووطني يضع مصلحة الطائفة وحقوقها قبل مصلحة المواطن وحقوقه؛ ونقض عقلية تستعمل الطائفة أداة استعلاء وتنابذ وتمييز عنصري؛ وتجنّب كل شكل من أشكال الحكم باسم الله، لأنّ الشهادة لله إمّا أن تكون بمحبّة القريب، بعشق الحريّة، بالنضال من أجل كل إنسان، بالاحترام المطلق للغيريّة، وبغسل الأرجل كما يقول خضر، وإمّا ألا تكون.

 اقترنت كتابة هذا البحث مع صدور النص التحضيري Intrumentum Laboris لسينودس المسيحيّين الكاثوليك المشرقيين الذي سينعقد في مدينة الفاتيكان في شهر تشرين الأوّل من عام 2010، والذي سيتناول مسألة الحضور المسيحي في الشرق وشهادته. ومن اللافت للنظر أنّ هذا النصّ يلتقي مع أحد مقوّمات العلمانية المسيحية اللبنانية الأساسيّة، ألا وهو الطبيعة الإيجابية لهذه العلمانية تجاه الأديان: «على الكاثوليك أن يقدموا أفضل ما عندهم عبر التعمّق، مع المسيحيين الآخرين وأيضاً مع المفكرين والإصلاحيين المسلمين، بمفهوم العلمانية الإيجابية». لا يقدّم لنا النص المزيد من التفاصيل عن كيفية تطبيق هذه العلمانيّة، ولكنّه يتلاقى ولا شك مع الفكر المسيحي اللبناني العلماني على مسألة العلمانية الإيجابية تجاه الأديان. إذاً يتابع النص ويتكلّم عن سبل إحلال «مساواة أكبر بين المواطنين من الديانات المختلفة، عبر العمل على تطبيق ديموقراطية سليمة، علمانيّة إيجابية، تعترف كاملاً بدور الدين في الحياة العامة، وتحترم تماماً التمييز بين الديني والزمني».

 المناداة المسيحية بالعلمانية أتت من كبار أعلام الطوائف المسيحية في لبنان. ومن النافل القول إنّ هؤلاء القوم لا يأبهون بالوجود المسيحي الحر والفاعل والكريم والشاهد في لبنان والشرق. فحياتهم وفكرهم وتضحياتهم والتزاماتهم المتنوّعة هي خير شهادة على أمانتهم للدعوة المسيحية وللرسالة الإنجيلية الإنسانويّة. فالطائفية ليست قدراً على لبنان وليست شرط الوجود المسيحي الوحيد، إذ يمكن المسيحية أن تستمر بعيداً عن الطائفية وفي ظل نظام علماني ما زال يجب تحديده. وإن صدّقنا المنادين بالعلمانيّة الإيجابية، يجب علينا القول إنّ المسيحية تستعذب هذا الشكل من الحكم السياسي الذي يجعلها في حالة نقد ذاتي وتجدّد دائم وفي حوار مستمر مع الحداثة ومع ما بعد الحداثة.

 نأمل أن تُغنى مسألة العلمانية في لبنان بمقالات عدة أخرى من الأبحاث الضرورية التي تستنطق النزعات العلمانيّة في الفكر المسيحي اللاديني، في الفكر السنّي والفكر الشيعي والفكر الدرزي. ولدى كل هذا الطوائف أعلام كبيرة تكلّمت إيجاباً عن العلمانية ومالت إليها أو نادت بها. نذكر على سبيل المثال ولا الحصر: لدى المسيحيين اللادينيين، نصيف نصّار؛ لدى الطائفة السنيّة، عبد الله العلايلي؛ لدى الطائفة الشيعيّة، مهدي عامل؛ ولدى الطائفة الدرزية، كمال جنبلاط.

 يصرّ المنادون بالعلمانيّة على أنّها تطوّر حتمي للمجتمعات الإنسانيّة. فهل يتطوّر لبنان إلى مجتمع علماني عربي حديث؟ لا شكّ بأنّ الإشكاليّة الدينيّة السياسية في لبنان تختلف أشد الاختلاف عن الإشكاليّات التي عاشها العالم الغربي والتي أدّت به إلى تبنّي علمانيّات متنوّعة. فهذه الإشكاليّة تتمحور في لبنان حول المسألة الطائفيّة وهي إرث عثمانيّ تعود جذوره البعيدة إلى القرن السادس عشر. أشكال الحكم المتتالية التي عرفتها أرض بلاد الأرز كانت تأخذ دائماً بعين الاعتبار المسألة الطائفيّة، من فخر الدين، إلى بشير الشهابي، من المتصرّفية إلى القائمقاميتين، من لبنان الصغير إلى الجمهوريّة اللبنانيّة. ولكن، على رغم كل الشحن الطائفي الذي عرفناه في الحرب اللبنانيّة وفي المرحلة الحالية، هناك معطيات كثيرة في تاريخ لبنان الحديث تبشّر بمقوّمات عدّة لقيام علمانيّة لبنانيّة ومن أهمّها: الإجماع الوطني على مناصرة القضيّة الفلسطينيّة الحقّة في الستينيّات من القرن الماضي (إذ زالت الاعتبارات الطائفية في حينها)؛ جزء لا يستهان به من المقاومة الوطنيّة التي واجهت الكيان الصهيوني العنصري غير آبهة بالانتماء الطائفي ولكن مؤمنة بتحرير أرض مغتصبة؛ دستور وقوانين الدولة اللبنانيّة التي هي، باستثناء قوانين الأحوال الشخصيّة والأعراف، قوانين مدنيّة تطبّق باسم الشعب؛ الحركات الشعبيّة والتيّارات السياسيّة والجمعيّات والأشخاص المؤمنون بالعلمانيّة والمناضلون من أجلها، وهم من كل حدب وصوب، من كل الطوائف ومن كل المناطق؛ المفكّرون الذين نادوا وينادون بالعلمانيّة، ومنهم من التزم دينيّاً ومنهم من التزم إنسانيّاً. طبعاً هذا لا يكفي لتطبيق العلمانيّة، ولكنّه كاف للإيمان بمؤشّرات قد تبشّر بعلمانيّة آتية.

 إن أتت العلمانيّة اللبنانيّة وإن أذعنّا لتطلعات المفكّرين المسيحيّين الدينيّين، فإنّها ستكون في حالة صدام مباشر مع الطائفيّة. ومن أكبر تحدّيات هذه العلمانيّة احترام خصوصيّات العائلات الروحيّة وصونها، بحيث يشعر كل مواطن بأنّه منتم لوطنه، حرّ بمعتقداته وفكره من ضمن قوانين الدولة العلمانيّة، غير آبه بمعطيات ديموغرافية أو بتتطرّفات دينيّة أو طائفيّة قد تقلق وجوده. فمحور هذه العلمانيّة سيكون الإنسان وحياته الكريمة بدلاً من الطوائف وحقوقها. فهل يصبح لبنان، وهو موجود في منطقة تستبسل في الدفاع عن حقوق الله، الوطن اللاديني (حايك) الذي يستشرس في الدفاع عن حقوق الإنسان (مبارك وعون)، كل إنسان، كل الإنسان (حدّاد)؟

 أنطوان فليفل

جريدة الأخبار 18.08.2010