|
Paul Khoury : la laïcité garantit la diversité humaine, Al-Akhbar, 18.08.2011 بولس الخوري: العلمانية تصون التنوّع الإنساني
ولد بولس الخوري في 1921 في دردغيا (صور). بعد دراسته الأدب والفلسفة في بيروت أكمل دراساته وأبحاثه في الفلسفة واللاهوت وعلم الإسلاميّات في روما، ستراسبورغ، بولونيا، فيينّا، مونستر، هايدلبرغ، واشنطن، القاهرة، وباريس، حيث درس مع بول ريكور وموريس مرلو ـــــ بونتي. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة لايدن (هولاندا) في 1965، وقد تناول بحثه بولس الإنطاكي، أسقف صيدا الملكي (القرن الثاني عشر). علّم الخوري الفلسفة في مدارس وجامعات عدّة، وأسهم في تأسيس مجلّة آفاق في 1974 في بيروت. يمكن تقسيم نشاطه الفكري إلى ثلاثة حقول من الدراسات والمنشورات: أوّلها يتناول الفكر العربي المعاصر؛ ثانيها يتناول المجادلة اللاهوتيّة الإسلاميّة ـــــ المسيحيّة باللغة العربية، من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر؛ وثالثها يتطرّق إلى مسائل اجتماعيّة، دينيّة وفلسفيّة.
تحيط ببولس الخوري الكتب من كل الجهات. الحوار شيّق جدّاً مع مؤلّف عشرات الكتب التي تتناول ميادين فكرية عديدة، ومنها الفكر العربي الحديث
■ ما هي الفلسفة؟
هي أولاً مجموعة أسئلة نطرحها على كلّ المسائل، حول كل شيء. وهي ثانياً محاولة لفهم المعنى عبر التأويل، فمن المستحيل معرفة الأمور بشكل مباشر، لأنّني أراها من منظاري، ولا يمكنني القول إنّ بمقدوري إدراكها بذاتها، كما هي، ففهمي لها يبقى ملتصقاً بتأويلي ووجهة نظري. لذلك، الفلسفة هي محاولة: هي ما أراه، ما يخيّل إلي، ما يظهر لي تحت ذلك الشكل… هذا ما يمكن الفلسفة أن تقوله، لكن حذار، لا توجد مع الفلسفة أيّة إجابة نهائيّة. ومن يعتقد أنّه أجاب على نحو نهائي فهو متوهّم أشدّ التوهّم.
■ هل يمكننا القول من ذاك المنطلق إنّ كلّ الناس فلاسفة؟
في المبدأ، كلّ الناس يطرحون الأسئلة، لذلك هم كلّهم فلاسفة، لكن تنقصهم الوسائل التي تتيح لهم التكلّم بدقة، والتعبير على النحو الملائم والفذّ. تلك الوسائل هي المبادئ المنطقية التي قامت عليها الفلسفة، والمفاهيم اللغويّة الواجب الارتكاز عليها للتمييز بين أنظومة وأخرى، ومفهوم وآخر. لذلك، يتمايز الفيلسوف المتخصص عن بقية الناس الذين لا يملكون الوقت للتعمّق في الأسئلة التي يطرحونها، بحكم انشغالهم بأمورهم الحياتية. أمّا الفيلسوف المتخصص، فلديه كل وقته للتبحّر في السؤال وفي محاولاته للإجابة. إذاً، الكلّ فلاسفة في نقطة الانطلاق، لكن الكلّ ليسوا بمتخصصين لأنّهم لم يقضوا وقتهم في التفكير في الأسئلة والمعنى.
■ هل للفلسفة وظيفة ما في عالمنا العربي؟
في كلّ العالم، لا فقط في عالمنا العربي، لأنّ الفلسفة هي البحث عن المعنى. ما معنى كلّ الأمور الموجودة؟ نحن نلاحظ أنّ الأمور موجودة، لكن ما معناها؟ نحن نعلم من خلال العلوم كيف هي موجودة أو كيف تعمل، لكنّ العلوم لا تعطينا الإجابة عن المعنى.
■ لكن أليس ذلك هو السؤال نفسه الذي يطرحه اللاهوت أو الإيمان؟
بلى، بالطبع، لكن الإيمان يجيب على طريقته التي هي طريقة اليقين. أما الفلسفة، فهي تقترح إجابات غير نهائية، لعلّها تكون مناسبة.
■ لكن مع أهميّتها لكلّ العالم، ما هي رسالتها الحاليّة في العالم العربي؟
هي تساؤل العرب عن معنى وجودهم وعن أحوالهم الآنيّة. لماذا وصلنا إلى هذا الحد من الانحدار؟ في القرون القديمة، كانت الثقافة العربية هي الثقافة بامتياز. فكل الجامعات الأوروبيّة في القرون الوسطى استقت العلوم من الأندلس. درس طلابها في الجامعات العربية، ثمّ عادوا وأسسوا الجامعات الشهيرة في باريس وأكسفورد. وبعدها، أخذوا استقلاليّتهم، وطوّر كلّ منهم على حدّة فكره الخاص، لكنّهم طوّروا انطلاقاً ممّا أخذوه من الثقافة العربية.
■ هل للفلسفة إجابة عن سبب الوصول إلى تلك الأحوال في العالم العربي، وهل لديها اقتراحات على الأقل؟
ما يحدّد المنطق العربي الحالي هو الجمود. لدينا قانون إيمان ديني، وأحياناً سياسي لا حياد عنه. نكبّل أنفسنا بأمور دينيّة وسياسيّة، نجهل أحياناً مصدرها أو سبب وجودها. وذلك أمر غير طبيعي، يخلو من حريّة الفكر التي هي حتماً ضروريّة. فحرية الفكر كفيلة بتحريرنا من القيود الدينيّة والسياسيّة.
■ ما هي نقاط فلسفتك الأساسية؟
لدي فكرة أساسيّة: لا يمكننا معرفة أي شيء إلا على مستوى الإنسان. الإنسان لا يدرك إلا ما هو إنساني، أي عالمه. إن ادعى أنّ هناك وجوداً لعالم آخر فهذا وهم وحلم. ففي الواقع، لا يوجد إلا العالم الإنساني. وإن تخيّل أي عالم آخر، أرفع أو أدنى من عالمه، فهو يصوّره على صورة عالمه. اسأل مثلاً المؤمن: «ماذا يعني الله»؟ سيعطيك إجابة نابعة من مفاهيمه الإنسانية، وكل ما سيقوله سيكون نابعاً منها. لذلك، فإنّ هنالك محوراً فكرياً هو الأنتروبولوجيا (علم الإنسان). نحن محاطون بدائرتنا الدنيويّة، والدنيا أو العالم هو، كما يقوله شوبنهاور، تصوُّري أنا (ma représentation).
لقد قمت بدراسات عدّة عن الفكر العربي. وما أردت أن أتناوله هو العقلانية في الفكر العربي الحالي. العقلانية هي طريق التحوّل الحضاري، هي النقطة المحورية في ذاك التحوّل. تحتوي العقلانية على قدرة التحول في العالم العربي، على عكس الإيمانيّة (fidéisme) أو التخيّل، وهي تساعد على التخلّص من الفكر العقائدي الديني، ومن التبعية للبلدان الغربية المستعمِرة.
■ ما رأيك في الربيع العربي؟
لقد انتظرناه منذ زمن بعيد. فتلك الأنظمة الاستبدادية لم يكن بوسعها الاستمرار طويلاً، كان يمكنها البقاء فقط فترة لم يبلغ فيها الشعب مستوى معيناً من الثقافة ومن الوعي الذاتي، لكي يعيش حياة سياسية طبيعية، لكن عندما يأتي الوقت ويبلغ الشعب مستوى معيّناً من الوعي الذاتي، يطرد الاستبداد والدكتاتوريّات وتؤدي الديموقراطية دورها. ما يحصل في العالم العربي طبيعي جداً، وقد آن الأوان لدخول العالم العربي إلى معترك الحياة الديموقراطية.
■ هل هناك مرتكزات فكرية وفلسفية للثورات العربية الحالية كتلك التي عرفناها مع ثورات التاريخ الكبرى، كالثورة الفرنسية أو البولشفية؟
أنا لا أقول إنّ الشعب كلّه يبلغ أرفع درجات الوعي الفكري. ففي أميركا أو أوروبا، يبقى الشعب شعباً، وتقوده دائماً قلّة قليلة، بعض المفكّرين والسياسيين. الشعب يتبع هؤلاء لأنّ لديه همّ العيش اليومي، وليس لديه الوقت للتفكير في كل شيء، وهو ليس قادراً على أن يدخل في تفاصيل كل الأمور. حال الشعوب العربية كحال كل شعوب العالم، لكن ما نخشاه هو أن تضع بعض الدول الإمبريالية، كالولايات المتحدة أو إسرائيل أيديها على المنطقة. يخيّل إلي أنّ أميركا وإسرائيل تريدان أن ترسما حدود هذه المنطقة على هواهما، كما حصل سابقاً بين الفرنسيين والبريطانيين على أثر سقوط الإمبراطورية العثمانية.
■ ماذا عن العلمانية والطائفية في لبنان؟
يتكلّمون عن العلمانية كما لو كانت الأساس، وما هي إلا جزء من ظاهرة الدنيويّة (la sécularisation). في الزمن البعيد، كان العالم مقسّماً إلى إكليروس يملك المعرفة، وعلمانيين لا يملكونها. من هذا المنطلق، كان الإكليروس هو من يصنع الثقافة على أساس نظرته الدينيّة إلى العالم، وهي مرتكزة على مقومات خمس: المعتقدات، والعبادات، والأسس الأخلاقية، والمؤسسات الاجتماعية والإمساك بالحياة السياسية. عندما تأتي الدنيويّة، تدحض تلك المقومات الخمس فلا يعود الشعب جاهلاً، إذ تثقّف؛ الثقافة تتطوّر ولا تعود ملك الإكليروس. حينها، يحصل نوع من التصالح بين العلمانيين والثقافة من جهة، وتنافس من جهة أخرى مع الإكليروس لأنّ الفريق الديني ثابت، غير متحرّك، أمّا الثقافة، ففي تطور دائم. وفي نهاية المطاف، تقول الثقافة للإكليروس، أنتم متأخرون، وهنا تحصل القطيعة. ماذا تقول عندها الثقافة لمقوّمات النظرة الدينية الخمس؟ ترى أنّ معتقدات الإيمان أسطورية وغير عقلانية، وأنّ العبادات غير فعّالة أو واقعية، وأنّ القيم الأخلاقيّة مثاليّة إلى حد لا يمكن تحقيقها، وأنّه لا حاجة إلى المؤسسات الاجتماعية الدينية لأنّ المجتمع المدني بنى مؤسساته، فما جدوى خلق مجتمع في المجتمع؟ فليكن المجتمع شاملاً، وليكن الدين جزءاً منه، لا أكثر.
أمّا في ما يتعلّق بالمقوّمة السياسية، فكان الإكليروس سابقاً يملي على العلمانيين ما عليهم صنعه في السياسة والاقتصاد والاجتماع، لكن المجتمع الدنيوي قال لهم: نحن لسنا بحاجة إليكم، فنحن نتدبّر أمورنا جيداً من دونكم. وهنا العلمانية، على هذا الصعيد، تعني نهي الإكليروس عن التدخّل باسم الدين، في الأمور السياسية والاقتصادية للمجتمع. إذاً، العلمانية تخص مقوّمة ظاهرة الدنيويّة الخامسة.
المجتمع مدني، وهو حكماً مؤلف من التنوع الإنساني الموجود فيه، لكن الجامع لهذا التنوّع عليه أن يكون الدولة العلمانية التي لا تخضع لأي دين أو عقيدة. وهي تحافظ على حريّة كل مواطن من دون أن تؤذي حريته وحرية الآخر. هذا الحل مثالي للبنان، لكنّني لا أدري إن كانت العقول ناضجة بما فيه الكفاية لقبول ذلك، وخاصةً أنّ هناك مستفيدين كثيرين من النظام الطائفي في لبنان، من رجال دين وأهل سياسة.
(صدر منذ أسابيع في فرنسا: Paul KHOURY Islam et christianisme‚ dialogue religieux et défi de la modernité‚ Coll. Pensée religieuse et philosophique arabe‚ sous la direction de Antoine FLEYFEL‚ Paris‚ L’Harmattan‚ 2011‚ 130 p).
حاوره أنطوان فليفل
جريدة الأخبار 18.08.2011
|
|
Leave a Reply