|
Le fils et le vicaire, l’identité humaine dans la laïcité et dans la religion, Al-Akhbar, 01.12.2010 «بين الابن والخليفة»: الهويّة الإنسانيّة في الدين والعلمانيّة
صدر حديثاً عن «مركز الأبحاث في الحوار المسيحي الإسلامي» كتاب للدكتور مشير باسيل عون، بعنوان «بين الابن والخليفة، الإنسان في تصورات المسيحية والإسلام» (منشورات المكتبة البوليسية ـ 2010). يروم هذا البحث إلقاء الضوء على مقاربة جديدة في أدبيات الحوار المسيحي الإسلامي، أعني الاستقصاء الأنتروبولوجي عن العناصر الأساسية المكونة للهوية الإنسانية، بروافدها المسيحية والإسلامية والعلمانية. يندرج هذا الإسهام في إطار كتابات عون عن الحوار بين الأديان، نذكر منها «بين المسيحية والإسلام، بحث في المفاهيم الأساسية» (المكتبة البوليسية، 1999) و«النور والمصابيح، التعددية الدينية في جرأة المساءلة اللاهوتية المسيحية» (جامعة البلمند، 2008).
لا ينحصر هذا البحث في إطار المساءلة العلمية الخالصة، إذ يقدّم لقارئه معطيات تساهم في فهم الواقع الاجتماعي العربي بتجلّياته السياسية والدينية والاقتصادية. فتصورات الأنظومتين الدينيتين المسيحية والإسلامية لهوية الإنسان لها الأثر البالغ في قرائن تصرفات أهل الإيمان التاريخية والثقافية. تنعقد هذه الهوية في المسيحية على مقولة «الابن» وفي الإسلام على مقولة «الخليفة»، وبين المقولتين «شَبَه صريح» و«فارق خطير» لهما أثر مباشر على أنماط تدبّر شؤون المدينة الإنسانية.
لهذه المقارنة خلفيات عدّة، تثني القارئ عن الإذعان بحلول سهلة تؤطّر المفاهيم في نظرات أحادية للأمور. على المستوى الثقافي، يجب تجنب اختصار الثقافة العربية بالإسلام أو بمعضلاته الآنية والحضارة الغربية بالمسيحية أو بالعلمانية. إذ إنّ واقع تلاقح الحضارات يحثّ على التبصّر الحصيف بلطائف التباينات الحضارية التاريخية. أمّا على صعيد تناول منطق الأديان التوحيدية، فيجب التحرّي بأمانة عن تحديدها للهوية الإنسانية المنعقدة على مفهوم الكشف الإلهي الذي يبلّغ الإنسان حقيقة الله وحقيقة ذاته. يرفض عون منطق الاستئثار بالحقيقة ونبذ الغيرية، فيدعو إلى التعددية الدينية التي تقوم على التمييز بين الذات الإلهية وما ينكشف عن هذه الذات عبر الاختبارات الثقافية والإنسانية: «فالله أكبر من جميع ما ينسجه الناس في مداركهم اللاهوتية».
عمق التصوّرين الأنتروبولوجيين مبني على تعاليم الديانتين الأساسية. مقولتا الرؤيا المسيحية للكون وللوجود وللتاريخ هما الظهور الإلهي وتألّه الإنسان. بظهوره للإنسان، يكشف الله عن ذاته كواحد في الطبيعة ومثلث في الأقانيم. ويبلغ الكشف ذروته في المسيحية عبر تجسد الابن، الذي يؤلّه الإنسان ويجعله ابناً وارثاً. أمّا الإسلام، فإنّه ينظر إلى الله نظرة التسامي المطلق ويرد كلّ شيء إلى الوحدة: وحدانية الله الأوحد، ووحدة الإيمان والخليقة والجماعة. هذا يضع الله والإنسان في وضعية الخالق والمخلوق، ويستبعد كلّ علاقة قربى بينهما. فلا تألّه للإنسان واشتراك في الحياة الإلهية التي يعجز عن تصورها، بل هداية إلى الصراط المستقيم. وعليه، لا بلاغ عن الله إلا من لدن الله، كلمته الأزلية، القرآن. يظهر ذلك الإنسان كأداة في يد الله، خاضعاً له خضوعاً تاماً. وفيما يكشف الله في المسيحية عن ذاته الإلهية عبر ابنه، يكشف في الإسلام فقط عن إرادته، عبر القرآن.
لهذه المفارقات التأسيسية تأثير مباشر على واقع تدبر شوون المدينة. فالله يعهد إلى الابن، في المسيحية، «استنباط الشرائع والسنن والأحكام من مصدر النور الإلهي المبثوث في مطاوي الضمير الإنساني». فتسمح الحرية المسيحية للإنسان بدائرة وجود خاص، كما أنّ الثالوث يتيح لكلّ من أقانيمه بدائرة وجود خاص. أمّا الإسلام، فيعتقد أنّ «من مسؤولية الاستخلاف تنبثق ضرورة الأمانة في رعاية الخليقة وفاقاً لسنن الله». لذلك، لا يشترك الإنسان في الحياة الإلهية، بل يبلغ، كخليفة، المشيئة الإلهية، ما يجعل حريته «مشروطة بالهداية القرآنية». سياسياً، تترجم تباينات النظرتين بإنسان المسيحية الذي يشترع، على ضوء إيمانه، القوانين التي تلائمه، كابن شريك في الخلق، وفي الإسلام، بإنسان عليه أن يتبع ما تتضمنه الشريعة من تدبير لشؤون المدينة. لطائف هذه التباينات شديدة الأهمية لفهم سلوك الديانتين السياسي، لأنّ «تصوّر الهوية الإنسانية شرط أساسي لتصوّر هوية الفعل الإنساني».
يتابع عون مقارنته الأنتروبولوجية بالتكلم على أسس مشتركة تجمع الديانتين، وأهمها مخلوقية الإنسان. ولكن الاختلاف الأنتروبولوجي يؤول إلى نظرتين مختلفتين في ماهية الأخير. فالمسيحية تقول بارتباطه بالله ارتباط الغصن بالكرمة، وبخلاص يؤلّه، وبنعمة المسيح التي تبرر الخاطئ من خارج الدائرة التاريخية. أمّا الإسلام، فينظر إلى علاقة الإنسان بالله علاقة الجابل بجابله، وينظر إلى الإنسان المهدي كإنسان التقيّد بالهدى الإلهي القرآني من داخل التاريخ. وإن قالت الديانتان بانفتاح الإنسان على الحق الإلهي، يبقى الفرق كبيراً بين علاقة قائمة على المحبة والاتحاد وعلاقة قائمة على الرحمة والطاعة.
تبلغ المقارنة ذروتها عند تناول مسألة الحرية، واليقين «الأقوى المبثوث في مطاوي هذا الكتاب يعتمد الحرية كأصل من أصول الاختلاف في النظرة إلى الفعل الإنساني». ففيما تظهر الحرية في المسيحية كموقف الإيمان الحر، هي في الإسلام تسليم واثق للمشيئة الإلهية وسلوك في سبيل الرشد. تساعد القراءة الثقافية الدينية على فهم معنى الحرية العميق، إذ إنّ اللغة العربية تحددها كعبادة لله، والغرب يفهمها كقائمة على الإرادة الذاتية. أضف إلى ذلك أنّ الإيمان في الإسلام أمانة وفي المسيحية إبداع. لهذا التباين أثر مباشر على اختلاف العقل التشريعي الإسلامي المبني على القرآن عن العقل التشريعي المسيحي المبني على استقلالية الشؤون الزمنية وعلى قيمة الواقع البشري الذاتية. ينتج من ذلك حرص في المجتمعات الإسلامية، من قبل الخليفة، على حقوق الله وأحكامه، وحرص في المجتمعات المسيحية، على حرية الابن. هذا لا يعني أنّ الإسلام لا يراعي مسألة الحرية والمسيحية لا تراعي مسألة حقوق الله. ولكن التشريع في المسيحية مسؤولية ضميرية على الابن الوارث، وفي الإسلام، هو مبني على الشريعة القرآنية. لذلك مُيّز في المسيحية بين الحقلين المدني والديني.
لا تستقيم هذه المقارنة إلا بإسهام الفكر العلماني الذي يغني الإشكالية ويرى أصل الإنسان في ذاته ويبعد كلّ معنى خارج عن التاريخ. يساعد هذا الإسهام على التمييز بين المسيحية والإسلام، حيث الحرية تابعة للمقولة الأصلية التي هي الحقيقة الإلهية أو الحق، وبين الفكر العلماني المحايد، حيث الحرية هي المقولة الأصلية، والحق والحقيقة هما المقولتان التابعتان. يتناول الفصل الأخير من الكتاب مسألة إمكان التلاقي بين هذه النظرات الثلاث. تتخطى المقارنة حدود الإسلام والمسيحية، وتصبح المقارنة ثلاثية تبحث عن إمكانات إسهام الأنظومات المختلفة في «تطلب الأمثل للإنسان». يرفض عون اعتبار الاختلاف في التصوّر الأنتروبولوجي كطريق مسدود، بل يعتبره دلالة على «التنوّع الأصلي اللصيق بالطبيعة البشرية». الأرضية المشتركة واضحة المعالم: «للإنسان كرامة كيانية لا يجوز التفريط بها على وجه الإطلاق». الإسلام والمسيحية يضعان هذه الكرامة في دائرة الإلهيات، أمّا العلمانية فتضعها في ذات الإنسان. والأمر سيان في مسألة الحرية. ولكن في كل الحالات تبقى مسؤولية الإنسان كبيرة وإن اختلفت مصادر الأصول الأخلاقية. لذلك، يجب أن تتعاون الأنظومات الثلاث للنضال في سبيل الإنسان وأن تعتبر «الاختلاف الفكري أصلاً من أصول ثراء الإرث الحضاري الإنساني الكوني»، وأن تجد قيماً مشتركة وفعلاً سياسياً يسهمان في سلام الحضارات والتعدد الكوني. يقترح المؤلّف مبادئ لهذا النضال المشترك ويحددها: «قيم المساواة والحرية والأخوة والعدل والسلام والتكافل».
ينتظر مشير عون من الفكر العلماني المحايد أن يكون فسحة لقاء للنظرات الأنتروبولوجية المختلفة، وخاصة أنّه «الأحرص على الحياد في تصوّر الهويّة الإنسانيّة». فهل تقبل الأنظومات الدينية بأن تسهم الأنظومة العلمانية في فهمها لعمق ذاتها؟
(تعقد «الحركة الثقافية ـــ أنطلياس» ندوة في التاسع من كانون الأول حول هذا الكتاب، يناقشه فيها المطران جورج خضر والدكتور وجيه قانصو)
أنطوان فليفل
جريدة الأخبار 01.12.2010
|
|
Leave a Reply