|
La tendance laïque dans la pensée chrétienne libanaise (4), Mouchir Aoun, Al-Akhbar, 11.05.2010 النزعة العلمانية في الفكر المسيحي في لبنان 4
مشير عون
مشير عون (1964) هو بلا شكّ من أحدث المنظّرين للعلمانيّة في لبنان. أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة يتناول الإشكاليّة الدينيّة السياسيّة، اللبنانيّة والعربيّة، من منظار الفلسفة واللاهوت وعلم الفسارة. يندرج تفكّره حول العلمانيّة ضمن أنظومة فكريّة كاملة متكاملة، وفي إطار بناء نظري فطن وجريء. فهو يدعو إلى تجديد في البناء الفكري المسيحي اللبناني، عبر قراءة متجدّدة لمسائل حوار الأديان، والخطاب الديني المسيحي العربي، واللاهوت السياسي. يستنبط عون فكره على ضوء عنصر جوهري من مقوّمات الحداثة، أعني التعدّدية. يضيق بي المقام هنا إن وددت التكلّم عن محوريّة هذه الأخيرة بالنسبة لتجديد الخطاب الديني. ولكن فحوى القول أنّ الفكر التعدّدي يحثّ الأديان على تجاوز استئثارها بالحقيقة الإلهية التي لا يمكن أي خطاب إنساني أن يستولي عليها، ويستنهض العقل السياسي اللبناني للبحث عن سبل لعيش التنوّع الطائفي في إطار مختلف عن إطار الطائفيّة الحالية. العلمانيّة التي يقترحها عون هي مقوّمة محوريّة من اللاهوت السياسي المسيحي الذي يصبو إلى أن يكون شريعة المسيحيين العرب السياسية. فجذور الطرح العلماني موجودة في أصول الدعوة المسيحيّة، الكتابيّة واللاهوتيّة والتاريخيّة.
لا يشاطر البروفيسور عون رأي الذين يعتبرون النظام الطائفي ركيزة لتعايش الطوائف في لبنان ولضمان وجودها. فالطائفية هي «مرض مؤذ جدّاً لصدقيّة النموذج اللبناني» بسبب العواقب السلبيّة التي يبرزها الاستغلال الأيديولوجي للدين. ويتجلّى إخفاق الطائفية عبر غياب المواطنة، وفقدان الانتماء الوطني المستعاض بالانتماء الطائفي، وولاءات الطوائف لقوى خارجيّة تضعف الوحدة الوطنيّة، والإساءة إلى حريّة الفكر بحيث تطغى النظرة الأحاديّة للحقيقة، وتواطؤ غير سليم بين الدين والسياسية بحيث «السياسة تستغلّ الدين على قدر ما يستغلّ الدينُ السياسة». رأس الكلام في هذا كلّه أن النظام الطائفي اللبناني غير قابل للتصديق بسبب لاملاءمة بنائه النظري مع واقع تطبيقه العملي، على الرغم من شرعيّة بحثه عن ضمانة للوجود المسيحي الحر والكريم. فالطائفية تؤول بهؤلاء «إلى الانعزال والاختناق». تدفع هذه المعطيات مشير عون إلى اقتراح لاهوت سياسي يعبّر عن نظرة إيمانيّة لالتزام المسيحيين وعملهم السياسيّ.
المسيحيّة دين ودنيا، وهي ليست ديانة الغيبيّات أو الروحيّات فقط. ولكنّها تختلف عن الإسلام بعدم امتلاكها شريعةً سياسيّة إلهيّة، إذ يتمحور عملها السياسي حول قيم إنسانيّة وإنجيليّة، يحاول تطبيقها في واقع الحياة السياسية. وللسياسة موقع جلل في الأنظومة المسيحيّة. فتعاليم السيّد تعتبر الدولة جزءاً من مشيئة الله، وبولس الرسول ينادي باحترام السلطة المدنيّة. كتاب أعمال الرسل يعترف بوجود الدولة ورؤيا يوحنا تشرّع المقاومة الروحيّة للاستبداد السياسي. وأما الكثلكة والأرثوذكسية والبروتستانتيّة، فكان لكل منها، عبر التاريخ، نظرات لاهوتيّة سياسيّة مبنيّة على تأويلاتها الإيمانيّة. فاللاهوت السياسي، حتّى ولو لم يمارس في قرائن المسيحيّة اللبنانيّة، هو بناء شرعي وأصلي على المسيحيّين اللبنانيين اعتماده «كشرط ضروري لإصلاح هيكلي للمجتمع».
على عكس النظرة الإيمانيّة المنزّهة عن التاريخ، يقترح اللاهوت السياسي نظرة سياقيّة للإيمان المسيحي، أي متوافقة مع الشروط التاريخيّة الحاليّة للوجود المسيحي في الشرق العربي. ويقوم هذا اللاهوت السياسي على مبدأ الحريّة الذي يذهب حتّى احترام الخيار الديني الشخصي لكل فرد، على التمييز بين الحقلين الديني والسياسي والفصل بينهما على صعيد الحكم، وعلى اعتماد شرعة حقوق الإنسان والديموقراطيّة «كأفضل أطر قانونيّة وتنظيميّة ممكنة حاليّاً لتدبير المجتمع الإنساني». تندرج هذه المبادئ ضمن الرسالة الإنجيلية الداعية إلى تحرير الإنسان من كل وصاية، أدينيّة كانت أم زمنيّة، وتوجيهه إلى سبل الإيمان الحق. ما يجعل من المسيحية دين نضال اجتماعي وسياسي. فكل ما يغرّب الإنسان عن ذاته معاكس لمشيئة الله. ولا يستقيم هذا النضال إلا إذا كان انفتاح، وحوار وتعدّدية. وأسس هذه المبادئ موجودة في اللاهوت الثالوثي عبر مفهوم الانفتاح المطلق الموجود أصلاً في ذات الله، وفي اللاهوت المسيحياني الذي يقترح الحبّ وبذل الذات بديلاً للعنف وللكراهية. كل هذه المبادئ تتعارض مع واقع الطائفية، وتدفع اللاهوت السياسي بالمناداة بعلمانيّة معتدلة، أمينة للشهادة المسيحيّة الأصيلة وضامنة للوجود المسيحي الحر في لبنان.
العلمانيّة المعتدلة ذات الحياد المطلق هي شرط أساسي لنهضة المسيحيّة اللبنانيّة والشرق العربي، وضمانة للتعددية الطائفيّة. هذا الاقتراح ضمانة للتركيبة الاجتماعيّة الطائفية وللمواطنة في آن واحد. وهو يحرّر المسيحيين من سلبيّات الطائفية. فالفكر المسيحي يزدهر من ضمن الأنظومة العلمانيّة، وهو يستكره الانغلاق الطائفي. جذور العلمانيّة المعتدلة التي تتمايز عن العلمانيّة الأيديولوجيّة الملحدة وتناهضها، موجودة في جوهر الإيمان المسيحي الذي هو محبّة وانفتاح واحترام مطلق للآخر. «فالإنجيل علماني من صلب دعوته. والمسيحيّة تستكره الخلط بين حكم الله وحكم قيصر»، بل تدفع بالمؤمنين إلى الالتزام السياسي عبر تجسيد القيم الإيمانيّة في معترك النضال الإنساني السياسي والاجتماعي. وعليه، فالعلمانيّة المعتدلة تحاور الأديان وتتبنّى قيمها، كقيم إنسانيّة، على شرط ألا تتعارض هذه القيم مع مبدأ المواطنة وشرعة حقوق الإنسان. وبذلك، تزول عن التعاليم الدينيّة صفة الإطلاق والاصطفاف الطائفي، وتصبح سبيلاً للتقدّم الروحي والفكري المتجسّد والملتزم. بتمييزها بين الدينيّات والسياسيّات وبفصلها للسلطتين، تبحث العلمانيّة المعتدلة عن أشكال النظام السياسي التي تؤمّن للطوائف عيشها الكريم، وتضمن خصوصيّتها الحضاريّة، وتقيم حواراً دائماً حول القيم التي عليها استنباط معاني الوجود الإنساني في لبنان، على ضوء التراثات الدينيّة التي تكوّنه. هذه العلمانيّة معتدلة بسبب انفتاحها وتفاعلها الفذ مع الواقع الديني الطائفي الذي تنظر إليه إيجاباً.
قابليّات الائتلاف بين هذه العلمانيّة والإيمان المسيحي واضحة بالنسبة لمشير عون. فالتمييز الإنجيلي بين السلطتين، والوثوق بقدرة الإنسان على إدارة شؤونه الدنيويّة، وحريّة اختيار السبل الدينيّة هي قناعات مشتركة بين المسيحيّة والعلمانيّة. وعلى الرغم من وجود اختلاف على بعض المبادئ الأخلاقية، يبقى البحث عن حلول ممكناً عبر الحوار. أمّا في ما يتعلّق بالتكافل، فالعلمانيّة المعتدلة تكفل للمسيحيّة اللبنانيّة حضورها، وإيمانها، ومبادئها وتطورّها التاريخي السياقي. فهل تكون المسيحيّة في لبنان كفيلة لنظام علماني إنسانوي يضمن لكل المواطنين حقوقهم السياسيّة، والمواطنيّة، والروحيّة والأخلاقيّة، ويعزز التعدّدية الدينيّة والحوار بين الأديان؟ لربّما حافظ اللبنانيّون المسيحيّون على وجودهم عبر النظام الطائفي. ولكنّهم بذلك يساهمون بالتخلّف السياسي والاجتماعي في العالم العربي، ويؤطّرون شهادتهم الإيمانيّة في أجداث الانغلاق الطائفي.
العلمانيّة المعتدلة تلخص جزءاً أساسياً من نضال المسيحيين اللبنانيين السياسي المقبل. فهي مشروع نهضوي، إنسانوي، تأويلي وإصلاحي يصيب الحياة الإنسانيّة في كل أبعادها ويستنهض قدراتها على التجدّد. علّ هذا النضال يصبح نضال المجتمع اللبناني بكل روافده، المسيحيّة والإسلاميّة والعلمانيّة، وأن يجعل من قضيّة الإنسان القضيّة الأولى التي يبنى على أساسها الوطن.
الحلقة المقبلة: جورج خضر
بقلم الدكتور أنطوان فليفل
جريدة الأخبار 11.05.2010
|
|
Leave a Reply